شريط

10‏/3‏/2013

سُبَيت .. هِمّة عالية ومَداس مقطع

سبيتعبدالله هادي سبيت لحجي ، واللحجي رومانتيكي فطرة. صقلته الطبيعة جسماً وروحاً ، شذبت أخلاقه ، وبرت ونقت روحه فأبعدت عنها جفافها ويبوستها، رققت طباعه ولسانه، وشكلت قوامه فجاء نحيلاً كنخيل بلاده ، فلا تجد في لحج بديناً.

ولحج طبيعة ساحرة ، تنبسط بين واديين خصيبين ، لذلك قامت فيها الفلاحة مهنة منتظمة ، وكانت بها الزراعة مستقلة مستقرة، فجاء اللحجي على عكس أخيه اليمني قاطن الصحراء ، الذي أدى قلة الماء إلى جفاف وقسوة في طبعه.

شكلت الخضرة حياة الفلاح اللحجي ، ورقق الماء طبعه وأخلاقه.. ومتى رقت الطباع تبعها الشعر. وما تنوع شعر ابن هادي و"جرأته على التخلص من النمطية التي سادت القصيدة العامية،... وتجديده في الأوزان ، وخروجه على النمط التقليدي للموشحة بتقسيماتها التقليدية.."- التي خلص إليها الدكتور المقالح إلا نتاج ذلك. 

الأديب الكبير أمين الريحاني محيط اللحجي ماء وخضرة ، وهو ابن الدلتا ، يتقلب على طول وعرض دلتاه بين المنتى والرداعة ، و(أندلسي الجزيرة) لا يشعر بالاكتفاء ولا بالامتلاء ، والقصيدة الموروثة لا تشبع قلبه الموله بالتنويع والتجديد ، ألا ترى عمامته؟ إنها تحوي كل ألوان قوس قزح ، فتلك العمامة "الصفراء الحمراء الزرقاء" التي أنعشت بصر الأديب أمين الريحاني يوم رآها على هامة القمندان، هي تعبير حي عما يحمله اللحجي من توق للجديد ورغبة في التنويع، وهذه هبة من هبات المحيط - فهو على عكس الشاعر الجاهلي ابن الصحراء الذي لم توح له صحراؤه بشيء حيث كل شيء هناك متشابهاً.

هكذا جادت قريحة القومندان بالجديد، فبنى قصائد هي قلائد من ذهب خالص في عنق الشعر العامي العربي، وجدد ابن هادي مثله في الموسيقى وفي الشعر ، والموسيقى تستهويه أكثر من البيان.

وان خرج ابن هادي في شعره قليلاً من حدوده الذاتية الغنائية التي وسمت شعر أخيه اليمني والعربي، فقد ظلت به كثير من عادات العربي الأول، واليمن مهد العروبة، واصل العرق نزار، فهو لا يعرف الاقتصاد والادخار- وهل في لحج تاجر واحد؟

ابن هادي فلاح ومزارع كبير ،  يحب العمل في الأرض بيده كالقمندان ، وككل شاعر من لحج لا تبعده مهنه ، وان تعددت، عن الحقل والبستان. وعلى شديد توقه للانفتاح على الغير فهو كالحجل لا يفارق لحجه ، ذلك أنك واجدهُ لا يقوى على فراق بلدته ، ملتصقاً بها أيما التصاق ،(clinging to the earth) كنيجر جوزف كونراد في (قلب الظلام) ، وفيه قيل المثل "عبدالله ذكر موطنه يا ليت الحسيني قريب".

إن لكل أدب بيئته الاجتماعية والسياسية والثقافية والأدبية. وابن هادي شاعر بعيد مدى الآفاق، واسع الانطلاق- كما عبر ناقد في وصفه للشاعر الأندلسي، ابن بيئة نضرة، تتدفق فيها المياه، وتزخر بالخضرة وبالريحان، وتعج بالغناء والطرب واللهو. كان سلاطينها شعراء وأدباء فأغدقوا الأعطيات للشعراء، وقربوا العلماء، وأقاموا المجالس والندوات، فاتخذ الفن مقعداً إلى جانب الجمال، وتقاسم اللهو والجد الحياة بالقسطاس. وهكذا ، تفرد الشاعر اللحجي عن غيره من شعراء العربية في عدله بين الإحساس بالأرض/ المكان، والإحساس بمن على الأرض/ السكان.

ابن هادي فلاح ، والفلاح يُفرحه عفير السيل، وتنعشه ريح الأرض، ويرد "قفعها" إليه روحه الحالمة. ولا عجب، فاللحجية في فترة وحامها لا تشتهي من ثمار الأرض ولا من خضرواتها، على كثرة ما تجود به شيئاً، بل تتوحم على تراب الارض: (القفع) ؛ تطعم القفع جنينها ، فيتخلق في بطنها بالطين ومن الطين، تصديقا لقوله سبحانه:" وخلقنا الإنسان من طين".

ولا يكون اللحجي شاعراً إن لم يتشرّب حرفه الفلاحة، ويدرك أساليب الزراعة وأسرارها: كان القمندان مزارعاً فشاعرا" فأميراً ، ومثله ابن هادي مزارع فشاعر فوزير. يطلع الشاعر من جسد الأرض فيلبسها شجراً وثمراً، ويتمنطق بريحانها ويتوشّح، ويأبى إلا أن تكون من ألوان الطبيعة عمته، ويزيد فيغرس في تلك العمامة الملونة مشقراً يرسل ريحه الطيبة إلى بعيد. على ذلك لا عيش بالمر 2تكون الأرض وطناً إلا لمن يفلحها:

        الأرض هذي للــذي يشقى ، وذي فيهــا حَجَن

        واللي بدمعه والعرق ضحّى وصبْحَت به وطن

        ما هيْ لعـاطل ، عـــاش يتخـــــوّر يبأ فته لبن

        ولاّ عسل ولاّ مرق وان ما لقي المطلوب جن

وهو قنوع ، يرتضي بالقليل إلا من الهوى والموسيقى. همته عالية ونفسه أبيه إلا أمام المحبوب، فإنه لا يقوى على تحمل الصد والهجر. إذا جافاه المحبوب هرب الى الحقل ليجد العزاء في ماء المطر، في السيل "غيلاً ودفرا"، بين أعواد البيني والبُكُر، وتحت ظلال الشجر، ينتقل من حقل لحقل، ومن بستان لبستان، فتجد له في كل (عتم وعبر) خبراً وأثراً. مداسه المقطع معروف ، وهمته هي هي لا تفتر أبداً : سبيت

        همتك عالية / ماشان يأسك ونوحك / كثــــرة النــوح خــــذلان

        هذه الساقية / تروي زروعك ودوحك / والمطر فوق (لِحْسان)

        ليه تضجر وتحزن  - ربنا بالمطرشن  -  وانت بالدمع هتان 

        ليه يا زين ماشان

هكذا تتنوع القافية ، وتختلف الأوزان، ويقصر القفل ويطول بطيناً سريعاً يتوافق وحال الشاعر النفسية، وتتجاور الحروف شديدة فلينة وتتدافع والقافية حتى تصل المصب فتسكب أنيناً وقهراً وحزناً.

بين الشاعر والأرض صلة دم ، فأنت لا تستطيع فصله عنها كما لا يستطيع هو أن يفعل ، وما حاول. الأرض أمّه محلاً، ومروية ؛ إذا جدبت رفع يديه الى السماء داعياً لها بالسقيا من غير إفساد .. وإذا انهال المطر كانت فرحته لا تعادلها فرحة ، يخرج عرياناً إلا من بعض ثيابه يهلل ويكبر ويغني مع الأطفال:

        وامطيروه حطى لبن لبن / سال السيل يسفح لا عدن

        قولوا معي وامطيروه ، وامطيروه

محلج القطنإن خير ما يمثل روح الفلاح في سبيت واعتزازه بأرضه، وبذله الروح رخيصة في سبيلها قصيدته التي قالها في القطن:"بانجناه". عمل سبيت إطاراً واحداً لموضوع قصيدته وهو موضوع حلج القطن، فهيأ المكان والزمان: المحلج وموسم جني القطن:

   بانجناه

با نجناه من غصنه / واهابوي من حسنه / يشفي القلب من حزنه

   بانجناه

با نجني الذهب الأبيض /  لا يدول ولا يأرض / عاده لا دَوَل بيّض

ديوان عبدالله هادي سبيت يستهل ابن هادي غنائيته متحدياً، مفاخراً، مفتخراً ؛ وهي حال المزارع اللحجي للتعبير عن سروره وابتهاجه بأرضه وبما تعطيه من خير، ذلك أن ( وابوي )- صرخة الفرح في لهجة المحل- لا تكفيه ولا تشبعه فخروجها صادر عن الحلق، لذلك استعاض عنها بـ ( واهابوي ) الطالعة من الصدر- حيث القلب .. إمعانا في كيد الحساد، ربما !!

ويختم ابن هادي استهلاله مقدماً حقائق ثلاث لا مجال لنكرانها هي: بقاء محصول القطن طويلاً على ذات الحال، لا يقدم ولا تأكله الأرضة، بل هو طيباً نقياً كلما عتق كخمرة أبي نواس أو كرز الهند، ثم انه كالذهب، بل هو ذهب بلون الصفاء والسلام والحب، ابيضاً. وما أحلى هذا الذهب الأبيض الذي ينافس الذهب الأحمر.. ويكاد يغلبه.. فان احتل الذهب الأحمر أذون الصبايا وأيديهن وأعناقهن، تمكن ذهب ابن هادي من خدودهن:

وسط البودرة تلقاه / والخدين تتلقاه / محلاهم ويا محلاه

محلاه في الخدود البيض /بس القلب ما بيريض/ يشتي دايمه تمريض

بل وغدا ذهب ابن هادي غطاء للرؤوس، ودثاراً للأكتاف:

بفعل لذا البدر منه مقرمة ململ / ذي داخل القلب حل / باجدّد العهد الاول

تحميل القطن اللحجي2 ما أحلى ذلك النور الظاهر من خلال شال شفاف. وما أروع تلك الخدود التي ظلت حلوة حالية تتقدم جمال القطن طالما جاء"وسط البودرة"، ولم يأت منفصلاً مستقلاً، واجتمع بياض القطن وبياض المحبوب، فكان هناء وكان سروراً.

ثم ينتقل ابن هادي بعد هذا التمهيد الجميل إلى متن الموضوع، وهو القطن بين آلة الحلج وعاملة المحلج فإذا أمامه قطنان : قطن يُحلج وقطن يتدرّج:

يا محلاه في المحلج / كم له من مليح أبلج / يرمي به ويتدرج

والخــدين تتضــرّج / والنهدين تترجرج / والملهـوف يتحرجج

البيتان جميلان، ويكونان اجمل متى أرسلهما فضل محمد اللحجي نغماً خالصاً في سماء لحج وحواليها. وعلى بساطة أسلوب ابن هادي فانه في هذين البيتين يجسد اللحظة الشعرية التي فاتت كثيرين غيره. انظر معي من هو "الملهوف الذي "يتحرجج"، أهو القطن الذي تجلد دمه وتجمد ويبس في عروق آلة الحلج، أم هو الشاعر الولهان، أم كلاهما؟

سبيتإن هذا التشخيص في "والملهوف يتحرجج" يشير إلى حال الشاعر المبعثرة بين المليح الأبلج المتدرج في مشيته كصاحبه عمر ابن أبي ربيعة- ابن جده شاعرنا، وبين خديه المتضرجين وكعبيه الناهدين المرتجين ككفله.. ويأخذ المليح بياض الشعر والشاعر وذهبه فيرمى به رمياً مثل سهم في بطن الآلة غير آبه لفعلته، لا يدري أنه إنما قد أوقف بفعلته الدم في عروق الملهوف فتجمد. وجميلة هذه المقابلة بين دم العاشق المتجمد في ثنايا فؤاده والدم المتوهج في خذ المحبوب الحالم بالانفجار، وكلاهما ماسك دمه كي لا يختل التوازن فيغلب الأحمر الأبيض، ولتكن الغلبة- إن كانت- للأبيض، للحب، فهو الذي "يشفي القلب من حزنه" ومن جروحه، بعد أن تعصره الآلة وتنقية وتطهره وتخرجه أملساً ناعماً طيباً على الجرح:

        ذا صافي من البرعم / لا يدحش ولا يدرم / فوق الجرح ما يألم

والآن، هذا هو القطن وقد صار بزاً له مكانه بين القماش المعروض بدكان (باسويد) وعلى ابن هادي أن ينتقي:

        لا بأ المطرز بتلّه، لا ولا المخمل

        بأ ثوب (من ذي) الوصل

        جاهز معمل مكمّل

تكاد تكون قصيدة ابن هادي هذه تاج الشعر العربي في موضوع القطن، فهي على عافيتها، لا تدانيها قوة تعبير وتصوير إلا قصيدة خليل مطران"هدايا العروس" التي قالها في القطن وجنيه وجانياته ، يقول مطران:

        هبّت صبيــاتُ المــزارع بُكرةً  / يخطـرنَ بين السير والإسراء

        من كل عاصية النهود بها تقىً  / مطواعة الأعطاف ذات حياء

أين خطرة صبية مطران من "تدرج" صاحبة ابن هادي. وإذا كان لصبيه مطران الجانية "نهدان عصيان" فللعاملة اللحجية ردف ثقيل يرتج ، ونهدان يوحدان ارتجاجهما معه.

لا يبدع ابن هادي إلا متى تحدث عن الأرض والزرع أو عن الحب والحرية. لا يشبع من الهوى والشعر والطرب، فأما الشرب فما احتال له، وإن ذكره.

ديوان سبيت طبعة القاهرة 1964 لم يكن لابن هادي جورب نبيل، بل كان مداسه مقطعاً كمداس المتنبي الثائر. وكلاهما كان عالي الهمة، ثائر النفس، أبياً عربياً، قحاً من الطراز الأول، وكلاهما كان قومي النبرة. فمثلما حض ابو الطيب أميره الحمداني على قتال البيزنطيين، ونصحه بالترفق في سياسة القبائل، مذكراً بأنهم رجاله "إذا يدعوا لحادثه أجابوا"، حث ابن هادي سلطاته على إتباع العدل، والعمل على التغيير، ومؤازرة الناس في مطلبهم للتخلص من المستعمر.. ولما لم يستمع له سيف الدولة العبدلي، ترك لحجاً كما ترك المتنبي حلب- واستقر بمسجد الخير بالشيخ عثمان يصلي بالناس ويخطب فيهم ويدعو ويستغفر لهم ولسلطاته المحبوب ولنفسه، دون أن يدعي انه المهدي المنتظر. وأبت أخلاق الفلاح فيه أن يصادق فاتكاً الانجليزي بحثا عن العزاء الذي ينشده. وكبر عليه أن يهجو سلطانه الحبيب، كما عظم على أبي الطيب هجاء أميره الحمداني يوم كان في ضيافة وحمى الإخشيديين بقصر "عبد السوء" عدو الحمدانيين .. كان ابن هادي وسلطانه رجلين كريمين .

ثم خرج ابن هادي من لحج مرة أخرى بعد طول كد وكفاح ونضال- غانماً، غير سالم. فأما غنيمته فلم تكن الذهب الأبيض الذي طالما عشقه وتغنى به وغنى له، بل كانت (لكيداً):

        أرضنا ارض الزراعة والذهب /  ما معـانا منهـا غير الحطب

        غيرنا فايــــز ، ونحن خاسـرون /  في سبب حريتك كله يهون

وإذا كان لابد لي من كلمة أخيرة، فإني أقول:

ألا عافاك يا أبا محمد ، سلِمت وسلمت همّتك أيها الفلاح اللحجي الحر .." كلاكَ بحفظٍ ربُّك المتكبر" ■

ـــــــــــــــــــ

 ألقيت هذه الكلمة بندوة كلية التربية / صبر لتكريم سبيت في 17 يونيو 1996، ثم نشرت بكتاب: "عيش بالمر نشوان"، ثم نشرت في الصحف: (التجمع) العدد()، و(الثقافية) العدد (157) في 29/8/2002، وجريدة ( 26 سبتمبر) العدد (1319) في 11 ديسمبر 2010

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 

imageأغنية ( سألت العين ) كلمات ولحن: عبدالله هادي سبيت ، غناء: عبود زين

imageأغنية (غزلان في الوادي) كلمات ولحن القمندان، غناء: الشاعر عبدالله هادي سبيت

          المقام: جنس بياتي مصور على درجة النوى ، الإيقاع: شرح لحجي ثقيل