كان (علي أحمد بحاشرة) (1918-1972) شاعراً من الطراز الأول ، ومثالاً صارخاً للإنسان العربي البـدوي: بريء القلب والخاطر.منَحتهُ البادية ، إلى النقاء في القلب ، جفافاً في الطبع وقسوة ،كما شكّل الجبل شخصيته فجاء صلباً شجاعاً يابساً كمحيطة ؛ قال شيخ الأدباء :" ومتى قلّ الماء جفّت الطباع ، ومتى جفّت الطباع تبعها الشعر". في شعره رسم لخطوط الحياة الصحراوية كالتي نستلهمها من شعر الملك الكِنْدي وطَرَفَة وابن كلثوم..عندهُ وقفت أخلاقُ العربي الحق ، ومعهُ بَلَغَتْ الرُّجولةُ تمامها . هو صعب المراس ؛ يصفح ويتسامـح في كلّ شيء إلا أنْ تُمَسّ عقيدته أو أعرافه ؛ فهي كل رأسماله . فرضت عليه البادية نمطاً حياتياً قبلياً حيث الفرد يذوب في المجموع ، ويفنى في القبيلـة ؛ ومن هنا كان مذهـب العربي الأول : " ناصِر أخاك ظالمِاً أو مظلوماً ". قال ابن عين كفاع :
إنّ انفراد العربي في صحرائه جعل منه هذا الرجل الذي نعرفه. فالشجاعة العربية هبة من هبات المحيط السنّية. فالذي يعيش في بيت الوبر فلا بدّ له من أن يكون شجاعاً، حاضر البديهة والجنان واليد. والإباء العربي يدعو إليه أسلوب العيش. فمن لا يستقرّ في مكان ما يأبى كلّ ما يذله ويستعبده . فالعربي البدوي سائح دائم ، وعن هذا أيضاً نتجت قِلّة صبره ، وارتجاله في كل شيء .1
نعم ، الشاعر العربي سريع الغضب لأدنى سبب ، قليل الحلم ، لا ينام على ضيم ، وان ادّعى غير ذلك فلا تصدّقه ؛ ذلك أنّ قلة الصبر سمة في العربي شاعراً أو غير شاعر ، وقد كذب الفرزدق يوم قال: " أحلامُنا تَزِنُ الجبالَ رزانةً " ، إنما هو صادق في الثانية :"وتخالنا جِنّـاً إذا ما نجهــلُ". وهذا شاعرنا يستحيل إلى بركانٍ هادرٍ ، فيصبّهـا حمماً بحاشريّةً على هامة المهجو كالتي لأبي حِزْرة :
صَحّحتونْ للعبدْ ، صلاته جايـزهْ / ذي يدخل المسجدْ وكِرعانهْ يبوسْ
كُلّه من ( فروان ) ذي قد كبّـره / م العبــــد باجيبه في حُفــرهْ نكـوس
يذكرني بحاشرة، صاحب بيت عياض، بشعراء العرب الأقحاح ، وأجد في هذا اللحجي أخلاق العربي الأول . هو كريم مِضْيَـاف ؛ يعطي ولا يمُـن. يمقتُ البخل ، و يشهّرُ بكل تغلبيٍّ يتحَكّك. نفسهُ هنيّة ، وروحهُ خَيِّرة ، لكنك لن تأخذ منه شيئاً بغير رضاه . هو مِثـْآر ؛ ولكنه رحيم وإنسان. خصامه خصام الرجال ؛ لا يلصق الشَّـيْنَ بخصمه ، ولا ينعت مهجـوَّه بما ليس فيه . يتتبّع مثالب الخصم و نقائصه ويستغلها أحسن استغلال ،ولكنه في ذروة فورانه وهيجانه لا ينسى أخلاق العربي الحق، فإن اعتذر المهجو عن تلبية طلب للشاعر كان نصيبه هذا التشهير:
قد كانْ ( امعوْضَهْ ) قَبِيليْ م اخْيَـرَهْ / واليوم (امعوضه) تمكـّـنْ بالريـاضْ
ما با خُذِ الاّ من رجالْ ( المِجْحِفَهْ) / ولاّ المحَلّهْ ذي قبَلْ ساكن عياض
يُذَكِّرني هذا الهَجَّـاء بابن عطيَّة الخَطْفي ، حيث يكاد يلتقي (صاحب بيت عياض) (بصاحب البصرة) ؛ ذلك أنَّ كليهما قد أُوْتِيَ لساناً حاداً و قريحةً فياّضَةً . و إذا كان قد قيل أنّ شعر جرير: "يعلق بالحوافظ ويسير على الألسنة . يتَّصفُ من حيث المبنى بأُنْسِ اللفظ وسهولة التركيب و رشاقة الموسيقى ،ومن جهة المعنى تراه قريباً من الفِطْرَة ينتزع صوره من البادية ، ويفيض عليه ظرفاً وسخْراً لاذعاً حين يعتمد على الصور المَسْخِيَّة "2 ، فإني أجد كل تلك السمات مُتَجَسَّدَةً ناتئة في شعر صاحبنا. وما اختلف ( أبو حَسَن ) عن ( أبي حِزْرة ) إلا في أنَّ الثاني قد ترك بادية اليمامة إلى البصرة "ليلقى خصمه الفرزدق وجاهاً ويتمكن من نشر شعره في الحواضر" ، أما بحاشرة فقد قدم لحجاً حاملاً الخير وباحِثاً عن مِثْلِهِ . ودفعتِ الحاجة جريراً إلى التّكسُّب فمدح الأمويين وقبض جوائزهم ، ولم ينظر بحاشرة إلى ما في يد السلطان العبدلي . والأهم من ذلك ، كان جرير سفيهاً مُفْحِشَاً في هجائه ؛ يعمد إلى اختراع المثالِب حين لا يجدها ، بينما ظلَّ بحاشرة محكوماً بأخلاق الرجل الحق . ففي نقيضته لقصيدة الأخطل "خف القطين" هجا جرير تغلبَ وحَقَّرَ رجالهَم وشتم نساءَهم شتماً قبيحاً:
و التغلــــــــــــبيُّ ، إذا تَمَّــــتْ مُرُوءَتهُ ، / عَبْـدٌ يَسوقُ رِكَابَ القومِ مُـؤْتَجَرُ
نسوانُ تغلِبَ لا حلمٌ ولا حَسَبٌ، / ولا جمـالٌ، ولا دِينٌ، ولا خَـفَرُ
أما بحاشرة فلم ينزع إلى فِعْلِ الشَّيْن بالتشنيع والتشهير والتعرض للأعراض بشكل مباشر فج ؛ بل حينما حمله الغضب والرغبة للانتقام من الخصم ابتعدَ عن التصريح القبيح ، و التحفَ ثوب الكناية والاستعارة ، واكتفى بالتلميح . قال فاضحاً خصمه بأنَّ امرأته تخونه :
نَعْجَـهْ مِعِــيْ بيضا وجابَتْ لِيْ سُـوُدْ / وِالْعَالمْ اللهْ أَيْـنْ خالهْ ، أينْ بُـوه
لا هُـوْ مِنِ السّاحلْ ، وَلاَ مِنْ بَرْبَـرَهْ / وانْتـوا يا اْلْعُرَّافْ سِـيروا قُلِّبـوه
لقد بَزَّ شاعر لحج شاعر البصرة . قارع الخصوم مقارعة الرجال الرجال ، فكان عفيفاً لطيفاً ، وكانَ جرير ،كما وصفهُ بعضهم، جرواً هرَّاشاً .
شعر بحاشرة غنائيّ ذاتي في أكثره لم يخرج عن دائرة الهجاء ، إلا أننا نستطيبه و نتجاوب معه بالشعور والفكر لأنَّ مَبْعَثَهُ نفس ترفض العيوب والرذائل ، وتطمح إلى الخير والفضيلة . وكرؤبة بن العجّاج شعر بحاشرة رَجَزٌ كلُّه . وهو شديد الإيجاز حتى في استخدام بحر الشعر ؛ فلا ينظم على غير بحر الرجز في تمامه . والرجز بحر يستطيبه أهل الصحراء لأنه يتفق وتوقيع الإبل في سيرها .ينتزع تشبيهاته من محيطه و صِنْعته ، ولا يعمد إلى إجهاد الخيال ، وهو معذور في ذلك فصحراء العربي لا توحي له بأكثر مما أوحت ؛ فمثلما لا يُلام (الكندي) على تشبيهه لفرسه بحيوانات الصحراء الأخرى، كذلك لا يُلام بحاشرة إذا شبّـه المتخاصمين من أهل بلدته بخضار أرض لحج الزراعية:
جٍبْنَا الزّميطيّـهْ و جٍبْنَا الباميـهْ / يا خيرْ مِنْ شجرهْ بيصْلح للخُصَـارْ
أهل البلـَدْ ما بِعْرفونْ الجاديَـهْ / لا قد ضَلَعْ بالثورْ يكـوونْ الحِمَـارْ
والإيجاز في القول سمة يشترك فيها شعراء الصحراء العاميين . قال شيخ الأدباء في رؤوسه : " ومن خواص العربي الإيجاز . وهذا مقتبس من شكل الحياة: فبيته وجيز ، و لباسه وجيز ، و طعامه وجيز".كما يشتركون في النظم على بحر الرجز ، ولا نكاد نظفر في شعرهم بغير فن الهجاء ؛ ذلك أنهم ينظمون على السليقة ، ويرتجلون ساعة يجـب القول تقويماً لأمرٍ مِعْوَجٍّ ، أو استنكاراً لتصرّفٍ مُشِين .
لا (بامسلّي) تَجَـرْ فيها و لا (بـاداسْ)
كان بحاشرة وأهل زمانه يمزحون ويتنّدرون بقلوب صافية بريئة . اكتفوا من الدنيا بضحكة تطلع من القلب ، وبترك ذِكْرٍ طيّب . قنعوا من الدنيا بالقليل ، وما نظروا إلى ما بيد الغير. كان بامسلي وباداس مزارِعَيْن كبيرين ، عشقا الفلاحة والزراعة ، وأخلصا للأرض وارتضيا بما جادت به إن قليلاً أو كثيراً – وعمل الفلاحة لا يخلّف تجاراً. هذا ما استخلصه شاعـرهم فتركها حكمـة مدويـة ما يـزال ( الحاج حسن حزام ) يتمثّل بها ويُسْمِعْنَا إيّاها في كلّ حين في سوق قريتي:
الفــــــــــــــــــائدة ذي معي قرني من البسباس
خُصَارنا بامية والبقل فوق الغداء راس
لا بامسلّي تَجَـرْ فيهــــــــــــــــــــا و لا بـاداسْ
حاول شاعر العامية أن يوجز تجربته في الحياة في بيتين اثنين عن كلّ حدث مرّ به لا يتعداهما كي يسهُل حفظهما ، ورغم أن قوله وليد اللحظة يرتجله ارتجالاً بغير سابق تحضير ، إلاّ أنّ فيه فن بديع . قال (محسن بن سالم حسن عياض) معاصر بحاشرة:
كثرَتْ علينا دسوتْ الصَّيد والخُضْرَهْ / والحَبْ غالي زبونْ الأثنين في نُصْ كِدْرَهْ
لم يقف الشاعر بحاشرة على بابِ أميرٍ ، ولا تَجَشَّـأَ في وجه بواب السلطان " لِيُعْرَفَ شَبَعَهُ فلا يُمْنَعُ "، كما فعل (ابن سُكَّرَه ) في وجه بواب مهجوِّه البخيل؛ ولا كان شاعراً مُتَكَسِّبَاً ، بل كان مزارعاً يفلح في الأرض بيده . خصَّ شعره في أفراح العامة ناصحاً ومصلحاً أكثر منه مادحاً ، وما تزلّف أحد. إذا أُكْرِمَ أشاد بجود الكريم ، وبارك سخاءه في قول سرى مع الأيام وتخلّد :
يا هلْ ( عُبَرْ لِسْلُومْ ) يَاْ اْهْلِ المعرفَـهْ / ياذي ذبحتوا التَّيـسْ فوقِ البربـري
وإن نسى أهل العرس إكرام الشاعر أخزاهم بقافية تظل تتمثّل بها الأجيال:
يا اهل الحـراوة ما طعمـنا رزقكم / لا من الكنِبْ كِسرةْ ولا من البَحْرِيَهْ
لا قد الحـراوة هكـذا في شرعكمْ / بـا نـزوّجْ العُــرّي علـى ذي العُـرِّيَـهْ
شعر بحاشرة قَذْع مرّ ، أكثره هجاء في الذين أساءوا إليه .احتمى بالهاجس عند كلّ ملمة ودافع عـن نفسه دفاع الشعراء الذين سلاحهم الكلمة – و الكلمة أمضى من حد السيف.
مات الشاعر بحاشرة تاركاً لنا شذرات من الشعر الحالي ، ما يزال جلّه محفوظاً بصـدور الرجال. ترك لنا (أبو حسن) الفنَّ والذِّكْرَ الحَسَنْ ــــــــ برَّدَ الله ثراه ■
- نشرت بجريدة (التجمع) العدد ( ) في
[1] مارون عبّود ، 1972 ، "الرؤوس". دار الثقافة - بيروت.ط5 ص13
[2] رئيف خوري ، 1963، "التعريف في الأدب العربي". مطبعة الجبل – لبنان .ج1 .ص137