فجعت جامعة عدن بموت جمهرة من خيرة أعلامها. ففي عام واحد وارى الموت خمسة وجوه: الأستاذ عبدالله باوزير، والدكتور سعيد عبدالخير النوبان، والدكتور صالح نصر ، والحبيب حسن بن حامد الحداد ، وهذا الأستاذ سالم محمد عبدالعزيز يلتحق بالقافلة المجيدة ليلاقي إخوته في الجنة حيث الخالدين الأطهار.
نشأ سالم عزيز – كما نناديه نحن أهل الإنكليزية ـ في المكلا نشأة سلطانية.. وما ورد سالم عزيز الهند إلا أميراً أو كالأمير ، كما خبرنا أهل حيدر آباد. عاش حرّاً أصيلاً عزيزاً، متبوعاً لا تابعاً، وقد كنت أنشدُّ لعنفوانه ، وأنشدِهُ لحلو خطراته ، وازعم أن سالم، على عكس أبي تمام، قد استمتع بخاطره.
كان سالم عزيز ذكياً متفرّداً ، وكبُر متحرراً في تفكيره ، وفي تعبيره ، وفي طريقة تعليمه. كوّنت الجامعة اللبنانية شخصيته الأكاديمية، وفتّحت مداركه على المعارف الإنسانية ، وساعدته اللغة الإنكليزية على ولوج آفاق إنسانية رحبة غنية.
خصَّ الدهرُ بالحكمة أهل الهند وبني يمن، فاستقى سالم الحكمة من المنبعين. وكان "حكيم حافون" ، كما دعاه رفيقه الدكتور الظفاري ، غزيراً ودقيقاً. هو من محبّي الحقيقة. حاول استنطاق الحياة وفحص معـاني أشيائها علـى طريقته. تفلسف وسكـب خبرته بالإنكليزية فــي ديــوان أسماه: (200Close Couplets) . كان سالم مستنيراً، يكره الظلام، وقد جاء قبل أوانه ، لذلك لما عاد من بيروت يحمل الشهادة الجامعية اشتغل في ما له علاقة بالنور: مديراً للكهرباء في عدن ، ثم محاضراً ، وهو فوق ذلك شاعر، وغاية الشاعر التنوير.
ومن سمات سالم عبدالعزيز أنه قليل الكلام ، يؤشر نحو الشيء دون أن يلجه ، مفترضاً أن يكون محدثه أو المستمع إليه فطناً لبيباً ، إن لم يكن ندّاً. نفسه طيبة رضيّة وخاصة مع المجتهدين من طلابه. ما كان – رحمه الله – يمنع عن طلابه شيئاً؛ لا يخفي فكرة، ولا يخبي كتاباً طالما أحس بجديّة طالبه.
كان (أخو خالد) مرجعاً ثقيلاً، وهو يشكل مع الأساتذة : (الدكتور الظفاري وعبدالله فاضل وأحمد الجابري والدكتور بلال وسيدي حامد جامع) أقطاب المعرفة في عدن. وحين نضع هؤلاء الستة في الميزان يكون سواهم كأبي جرير في ميزان الأخطل.
لم أجد لأستاذي في الحضرموتيين شبيهاً ، ولا لمستُ (لآل بازهير) فيه من أثر بيّن عدا مغالاته في حضرميته. وقد كنت أراه جميلاً حتى في تعصبه. كان عكف في آخر أيامه لإعداد كتاب عن الفلكلور الحضرمي ، وإني أسمعه في آخر زيارتنا له أنا وصديقي علي سالمين، وهو يحدثنا ويغني متلذذاً: ( رمضان جاء يا حيّا به / حامل عشاء في جرابه) ــــ رحم الله (حمدانه).
إنّ لسالم عزيز فضل تأسيس قسم اللغة الإنكليزية بكلية التربية/عدن، ومركز الدراسات والترجمة، وله فضل ربط قسمنا بأهم وأكبر معاهد الهند (معهد سيفل - CIEFL) بحيدرآباد. له فضل تعليمنا، وتأهيلنا – والفضلُ يعرفه ذووه. علمونا أن الأستاذ مقدّم على الوالد، فكيف وقد كان سالم أستاذنا والأبا.
ولأستاذنا – رحمة الله عليه – فضل السبق في كونه أول عربي يصدر ديواناً باللغة الإنكليزية ، وقد كان فخوراً بذلك، كما كان يفاخر بكتابته اسمه على جدار المشاهير بايطاليا. وله ديوان شعر بالعربية محفوظة نسخة منه بمكتبة السيفل بالهند ، وسالم بالإنكليزية أشعر منه بالعربية.
كان سالم عزيز عصرياً متحرراً، فتح باب التفكير الحر لطلابه، وهو واحد من نوابغنا الذين نفخر بهم، وعناصره في الأدب والتربية حيّة لا تموت.
... وسالم بن محمد شاهدي الشاعر أمير الذوق
ولا با نقطع (الشِّتـرة)
(لدار الطار) بي قُمرة
و(للحسّيب) كم بي شوق
وسالم عِدل يالأخوان له مقدار في الحضرة
وسالم هوْ ابونا، نورنا والنار والفكرة
وسالم يا جماعة ، خبّروا كل الجماعة ، فوق
وسالم مثل ضوّ الفجر إن غنّى
وسالم مثل طعم الصدق في المعنى
وسالم ... مَن كما سالم؟!
حبيب الحرف والأستاذ والعالم
يرحم ربنا سالم
■ نشرت بصحيفة 14 اكتوبر العدد (13173) في 17/9/2005م