في ذكرى الفقيد الأمير عبدوه عبدالكريم
الخميس 28/9/2006م ، 6 رمضان 1427هـ
إني محدثكم اليوم عن عناصر فقيدنا في الأدب والطرب. اسمحوا لي أن أدخل بستانه لأتقرّأ في ظلال أفنانه ، وأقطعُ من كلّ غصنٍ عِسْجاً ، وأقطف من حيث لذّ لي زهرةً عبدليّة. أدخل ديوانه وأطلع عليكم : في يدي معنىً مفيد ، وفي قلبي لحنٌ جديد ، وفي خاطري عنفوانٌ من عبدالحميد .
لا يُقَبض عميدُ غرامٍ ليلةَ أربعاء ...
وتمدّد اللحجيّ إلى مدخل الخميس وأسلمها في خامس رمضان الخير. هوذا يودعنا بقول السلطان الفضلي:
با توكّل علـى الله ذي عليه الوكَل / ذي سا طرق في البحور الطامية للمسافر
ما با يفيد المـــداوي بعد أمر القدر / يهل البلد سامحوا (عثمان) باطن وظاهر
غادرنا شيخ الشباب .. غاب آخرُ العبادلة السامرين في روضة الطرب اللحجي ! حمل نعشه أربعةٌ ، ومن ورائهم (لَرْضي) و(البيسة) ورجلٌ على دراجته .. وواروا جثمانه الثرى في جنح الليل ، والليل حليف الشاعر وخليله ...
مات فالج ــ والفالج الفحل، فلنربأ به عن التأبين؛ فما كان شاعرنا من أهل الأبَنَة
مات نظّامُ الأغاني ، مات زرّاع المغاني ، مات مطلوب الغواني ...
مات عبدل الغرام المتشرِّد في ثياب الغواني ..
لقد طلبه من الدهر طالب الملوك ، كما عبر النابغة حين نعيَ إليه النعمان.
هذه يد الموت القادرة تتناول نفس ( أبونا عبده ) وتثنّي بنفس صديقه عبدالله هادي سبيت. علينا أن نعظم ضوءَ نارهم "فوليٌّ لا تُبقَر له بطونُ المجاذيب ولا تُقرَع له صدورُ العجاوز يعيشُ بلا شأن في عالم الإيمان" ،(فالشيخ ملاّب) صاحب (مقيبرة)، مثلاً ، لا زبائن له بعد موت ( الحجة حاكمة)، ويكاد لم يسمع به جيرانه آل عياض ..
سافر آخرُ أميريٍّ يأكل المرار ...
بحث الأول عن ملك أبيه الضائع ، ومات دون أن يظفر به .. وقضى الأميري الثاني نصف عمره بحثاً عن (بستان الحبيل) فلم يلوِ على شيء ، ومات محسوراً .. كصاحبه سبيت عاش بالمرّ نشواناً ، يجابه البغض بالمحبة ، سلاحه ضد الحدثان إيمانٌ متين : " ديني وإيماني سلاحي وصواريخي المضاد".
يا خَميد الدّجر يا لَحج الخضيرة
" فتش شيوخ الأدب عن السعادة في ثنايا جلباب الدهور فلم يجدون سوى صدى أشباحهم جاثمة على جبهة الوعر. ولكم هو رهيب أن تصبح أشباح النوابغ رمماَ بالية ، يضحك منها الغباء ويهزأ بها ويؤدب (المتشردين). هذا هو لقب نوابغ الأرض في مملكة العدم" – صدق مارون عبود.
نشدَ الناس السعادة فحسبها بعضهم في اكتناز المال ، واعتقدها بعض الشعراء في العاطفة كما عبّر سيد الشعراء الحضرموتيين :
حَبّوا المال ، والمال فـانِ / كَثّـــروا فيــه بالمـَرجلَه
وانْ سألتم علـى رأسمالي / عاطفة نحو زين الخدود
وكان شاعرنا من أهل العاطفة ، اعتقد أن السعادة في ثياب الغواني ، فصال في الخدور ، وجال في القصور ، وصاحب القامور ..
في الحوافي غير حافِ / سار نظّام القوافي / وسْط تعكير النوافي ، وله مع كل خميرةٍ قصة ، وله عند كل خَـبـزَةٍ خَبر.
سرى "على راس الحنش يدعس ونابه".. يرْقِي سعاد ، ويجمِّش أسماء ، ويطلب المغفرة (لفانوسة) ..
كان مبتغى الجميلات ، كنَّ يطلبنه ويخطبن ودّه ويأمِّرنه على قلوبهنّ .. وهو كريم في حبّه ، سخيُّ في عطائه: منهنّ من تستحق حبّه ، ومنهنّ مَن يستحق "حبها" :
المالْ والمكسبْ / والروح يا أشنبْ / فداكْ لا تتعبْ / ما شانْ حزنانْ ؟
نعم ، إنه لحجيٌّ قح ، كل مقصده أن يرى محبوبه هانئاً ، سالياً ، طرباناً ، سالماً إلا من الهوى:
دمت ياورش هاني / وكل شي فانِ / وباك يا غاني / سالي وطـربان
بشقــــــى وبتكبّــــد / لما قدك تسعد / وتبلغ المقصد / يكون ما كان
متى عنّ المحبوب للشاعر اللحجي ، أو سرى منه هبوب ، ذهب همّه ، وتبدّد حزنه وضيقه ، وطاب خاطره ؛ يقول الأمير الرصّاص علي بن احمد فضل:
نسنس نسيـم الأحبــــة من بعــــــد ما نامـت الناس / كنّـــس غثا القلب كنّاس
وامسى من الهم سالي ، سالي كما حاســـي الكاس / نشوان من حرّكه ناس
في مفهوم شاعرنا أن الحب يوحد القلوب ؛ والحب كالموت يساوي بين منجل الفلاح وتاج الملك، فليس أمام الحب عبداَ ولا أميراَ. في سوح العشق وحِلّ ساعته تحوّل الأمير أحمد فضل إلى (حَمَل)، أدنى ظهره و"شلّ المحبوب على عاتقه"، وباراه ابن عمه في الدنوّ والتواضع فقلّد المحبوب " نشان الساق" في ساقه:
وعــد اللقاء بيننا في ساعة التّشريق / لو با يقع له يصفّق لي من الطاقه
يهل الهوى والمحبة كثّروا التصفيق / بفعل لخلّي نشان الساق في ساقه
(أبونا عبدوه) شاعر غنائي غزلي ، جُلّ نظمه في النسوان. والغزل كما يقول شيخ النقاد " ليس في معانيه الطريفة ، ولا في لغته اليابسة. الغزل ملاكه عاطفة متّقدة يسعرها الحرمان ، ويُذكيها التحرّق ويُعَبّر عنها بكلام بسيط بسّام غير جهم". قلتُ فأما الحرمان والكبت الذي يرهف حساسية الشعراء فما ذاق منه أميرنا سوى قليل. كان وصاله متواصلاً فخلا شعره من العاطفة المشبوبة. كان الهوى زاده وزوّاده. كان يغترف من بحر الغرام بالتنك إذا عزّ وجود الدلو. إن الحبّ ، عند العبدلي ــ في ذاك القليل الذي ذاق ــ نارٌ آكلة. زعم الأطباء أن القبلة تذهب بدقيقة من العمر ، وأزعم أنّ أبينا عبده قد كان يشترى الواحدة بشهر إذا وافقت الخميس يوم يحمى الوطيس :
أذبت شدّة لوعـتي بالضم واللثم العديـد / في وجه أبلج حينما لاقيـت إيـداً فوق إيـد
قبلات فيها نـار من جـوفي مُذيـبة للحديد / أودعتها خـد الوِرِشْ وأصبحت نـاري خميد
الله ، الله !!! يا خَميد الدّجر يا لَحج الخضيرة ....
وأما لغته فباسمة ضاحكة لا جهامة فيها ولا عبوس ، بل إنك لَترى فيها الروح اللحجية بخفتها ومرحها ، ببساطتها وعنفوانها شاخصة في سطوره ناطقة :
ليـتني با القاك سـاعة في السمر / والنبي يـازين خـاور لك خَوَر
حَبّكم قلبي حقيق / صرت في حُبّك غريق / يا جميلاً كن رفيق
خاف من ربي ــ واصل المَسبي ــ اعتنق حبّك وهام
ليت مرّة تجود
نلمس حرارة العاطفة في قصائد معدودات نظمها في مرحلة شبابه ، فيها نشعر بتحرّق ولوعة.. كذلك نلمسها في أغانيه التي نظمها في ديار الغربة. هناك بلغ الشوق قرارة نفسه ؛ فسالت أشواقه دفوراً شقّقت أعبار الغرام كما في غنائيته "سرى الهوى ".
بدأ الظلامُ، وخَبَطَ السحابُ بعضَهُ فوق هامة الشاعر فاستحال فالجاً برؤوس ثلاثة : العود والنينوه وعياض.. في ليل الغربة يجتاح الشاعر شوق لبلدته ، وينسكب سيلاً على "رأس الفؤاد" ، وتتراكم أشجانه، وتتزاحم هواجسه ، ويغدو قلبه المُضنى بالحنين قطعةَ أرضٍ زراعية، ويحلّ رأسُ الفؤاد محلَّ (فالج) ، يفيض شوقه المتدفق ليروي (رواد القلب) ؛ وتشتعل في "الكِبَاد" ــ على الجمع ــ نارٌ ضرام في معادلة عجيبة يعلن فيها الحنينُ والهوى الجهادَ على صبر صاحبهما ؛ على المنفي مَن لم يعد يقوى على كبت أشواقه:
سرى الهوى ركّب عَشِيْ يمطر على راس الفؤاد / وسـال سيل الشوق سقّى طين قلـبي والرواد
وهيّج الخـــــاطر ، وشبّت نـــار في وسْطِ الكِباد / حنين قلبي والهـوى أعلـن على صبري الجهاد
تلبّدت في أفق شاعرنا الهموم سحباً ماطرة واعدة بالخير والخصب لقلبه المحل. وهي صورة فريدة لم بفطن لمثلها الشاعر الجاهلي. فليل النابغة مثلاً "بطيء الكواكب" يردّ عليه همومه التي نسيها بالنهار ويضاعفها :
وصدرٍ أراحَ الليلُ عازِبَ همّه / تضاعفَ فيه الهمُّ من كلِّ جانبِ
هنا الهموم كالذئاب تأتي جماعات وتطبق على نفس الشاعر من النواحي جميعاً، وغدا ليل/همّ الشاعر يأساً "ليس بمنقضٍ". أما أميرنا فيحلّ عليه الليل وتحاصره الغربة وتتراكم الهموم على قلبه كالسحاب لا كالذئاب، وينزل مطر الهوى على نار الشوق فيذكيها ويسيران معاً (الماء والنار) يشيّعهما نغمٌ متآلف شكّلته أحرف اللين والمد ، فأبرزت هذه الموسيقى الداخلية المعنى ، وكان النغم في الحروف قبل أن يكون في الوتر. بلى ، لقد حملت القصيدة لحنها في أحشائها فنظمُها يسير على إيقاع المركّح في مياه بحر (الرجز) :
سَرَلْهَوَى / رَككبْ عَشِيْ / يُمْطِرْ عَلَىْ / رَاْسِلْ فُؤَاْدْ
في هذه القصيدة نجد شاعراً مطبوعاً يدرك أسرار اللغة فيُخْرج منها الأصوات التي يريدها ، كما أفلح كل الفلاح في اختيار الروي والقافية ، وكان موفقاً في تسكين القافية فضاعف همّه وشوقه بعد تنفيس . غاب التشبيه وتألقت الاستعارة ، وسار الحزن صادقاً في كل بيت وبلغ ذروته في مناجاة الشاعر لدهره :
قسيت يا وقتي كثير ، وزاد فحْسَك والعِناد / تنذرْ وتتوَعَّد تقوُل لي: يا أدادك بالأَداد
إنّ هذه القصيدة واحدة من وثبات الأمير القليلة والوثبات هي التي تعمل الشاعر الكبير؛ الشاعر الذي يرى في الأشياء أشياء غيرها.
* * *
أبو عبدالمجيد واحد من أعمدة الأغنية اللحجية في دورها الثاني. في أغنيته ( إن خلف لي الخل وعدا) فتحٌ غنائي جديد. هي مساهمة جادة في مضمار الطرب العربي الفصيح، تجلّت فيها ملَكَةُ الأمير كشاعر وملحن معاً. لقد استولى (أبو فاطمة) على المقام الأول في العامي ، وطرق (أبو جحوش) باب الفصيح أيضاً ـ وجميلٌ هو الشعر وعذب هو الطرب متى جاء من عُبيدليت ..
عاش أبو عبدالمجيد ومات رجلاً عزيزاً ، لم يتخل عنه عنفوانه ..
عاش زهير ثمانين حولاً وسأم ، وضاق لبيد من "سؤال هذا الناس كيفَ لبيدُ"، أما هذا العبدلي فقد جاوزهما بخمسٍ ؛ وكان محباً للحياة، مقبِلاً عليها ، مُحِبّاً للآخرة لا يقطع منها سبباً ، وبقيَ طريّاً حتى ليلة زاره عزرائيل ، ومات بشيبةٍ صالحة ، وبشيخوخة حلوة إذ ظلّ العقل في الرأس. سافر آخرُ أميريٍّ يأكل المرار ، بيد أنه لم يرهن درعه عند السموءل .. ■
■ كلمة ألقيت بمقر اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين بحوطة لحج ، ثم نشرت بجريدة (الأيام) العدد (5149) السنة 26 في 19/20 يوليو 2007
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أغنية ( سرى الهوى ) كلمات ولحن: الأمير عبدوه عبد الكريم، غناء: علوي فيصل علوي
المقام: حجاز على درجة النوى مع فاصل طنيني بأعلاه، الإيقاع: مركّح لحجي 4/4 هاجر+ 2 مرواس
أغنية ( إن خلف لي الخل وعدا) كلمات ولحن: الأمير عبدوه عبد الكريم، غناء: عبدالكريم توفيقالمقام: الراست مروراً بجنس بياتي ، الإيقاع: مركّح لحجي 6/8 هاجر+ 2 مرواس
التدوين الموسيقي: عبدالقادر قائد اللحجي