شريط

27‏/12‏/2010

القذع على الرَّجَز (1)

مقالة القذع على الحمار سبتمبر 1989 الهجاء هو أصل الشعر، وكان للهجاء دوراً هاماً في توجيه حياة الإنسان العربي ، حيث كانت وظيفة الشاعر الهجّاء هي إبطال قوى الخصم وتخويفه ونشر الرعب في قلوب الأعداء. ولذلك لجأ الشاعر العربي - إمعاناً في التخويف - إلى تغيير هيئته لتساعده على الإيحاء بالاجتياح واللعن. فلبيد ، مثلاً ، كان يدهن أحد شقي رأسه، ويرخي أزاره ، وينتعل نعلاً واحدة ، وكان حسّان شاعر الرسول (ص) يخضب شاربيه وعنفقته بالحناء.

ومعلوم ما قام به شعراء "النقائض" في العصر الأموي من تسعير لنار الهجاء ورمي الحطب لإعادة إشعالها بعدما خبى الإسلام أوارها ؛ ونذكر صرخة جرير فاضحاً النميري الراعي الذي فضّل الفرزدق عليه: (فغض الطرف إنك من نمير..). وذهب شعراء النقائض يعددون المثالب ، ويكشفون العورات. وكان الشاعر منهم لا ينتقم لنفسه بقدر ما ينتصف لقومه فيمتدحهم ويهجو أعداءهم بما يحملنا على القول بأن الهجاء قد كان آنئذ هجاء قوم لقوم وليس هجاء شخصياً كالذي شاع في الأعصر التالية. وقد خلا شعر الهجاء الجاهلي من العصبية السياسية التي تميز بها الهجاء في العصور: الإسلامي والأموي والعباسي وحتى اليوم.

والهجاء نوعان: شخصي وقبلي (عام). فأما الشخصي فذلك الذي يدور حول شخص معين لأنه ارتكب إثماً، أو اقترف جريرة أو أتى ما يغضب الشاعر كعدم جزاء الشاعر على مدحه للمهجو ، وسنقصر حديثنا هنا عن هذا النوع. وأما العام فهو هجاء الشاعر لقوم أو قبيلة سواء تناول القبيلة ككل او رماها في شخص احد أفرادها ، بقطع النظر عن تدني أو علو منزلة المهجو في القوم، لأنه لا يهم الشاعر سوى الحصول على ثُلمة ينفذ منها إليهم، وإن كان في التعرض لسيد القوم والتمثيل به أثر أشد ووجع أعمق. ويأتي الهجاء مباشراً في شكل قذع وتجريح وكشف للمساوئ وإظهار للعيوب، أو غير مباشر في شكل (الفخر). والفخر هجاء أيضاً. فافتخار الشاعر بقومه وبما يتحلون به من حميد الصفات في الأخلاق والعادات وسواها هو هجاء لقوم آخرين يفتقرون لمثل تلك المحامد والمكارم ، خاصة وأن نمط القبيلة هو الشكل الحياتي للإنسان العربي الذي أملته عليه ظروف طبيعية وبيئية. وقد يعمد الشاعر لمثل ذلك من الفخر تجنباً للفتنة وإثارة الصراعات التي قد يؤدي إليها الهجاء المباشر كقول (محمد دباشي – صاحب بيت عياض) مفتخراً بأنه من قبيلة كثيرة العدد، جيدة العدة، لا يأبه أفرادها للموت، مُحقّراً ضمناً قبيلة أخرى لضعفها عدة وعدداً؛ (من الرجز):

القبيلة عوجـا ، عَجــي تِركوبها  *   أوزنتهـــا عنــد الثريــا لا بعيـد

ما بسري الا في كراديس العَوَل  *   أهـــل الفرنجيات زينات الحـديد

ومن ذلك قول (صالح علي عون – صاحب بيت عياض) يفتخر على آخرين بما يمتلكه من مال، وبما تحوي قبيلته من رجال، قادراً بهمتهم أن يعيد بناء الجسر الترابي الذي جرفته السيول من الحجر. ويلمح ساخراً لتكن المواساة للضعفاء الذين سدودهم مبنية من جذوع وأغصان الأشجار (مِشعبة) ، (من الممتد أو الوسيم):

رُد بالــدان واذي عـــــاد قلبك  سلي  *  (بن عون) ما يسمـع الداعي ولا يستجيبه

شــددون المُنيبـة واقرنـــــون البقـر  *  ( فالج ) تخــرّب علينا من  أماكن  صعيبة

في القلب ببني لخلي دار عالي حجر  *  وصاحب الدار ما هو مثل  مولى  الزريبة

لقد أعطى الهجاء صورة صادقة للمجتمع العربي ، فكشف عيوب ذلك المجتمع وأظهر مساوئه سلوكياً واجتماعياً، وأبان مواطن الخير، ومحامد الأخلاق التي تحلى بها الإنسان العربي (البدوي)؛ وفي كشف العيوب والمخازي دعوة لتجنبها. لذلك فقد جنحوا به إلى الصدق ، ونأوا به عن الكذب. فالهجاء الذي يُمليه الإدعاء وليس فيه غير المَين مرفوض عندهم. (1) لكن هذا الهجاء الجاهلي لم يثبت على حاله في العصور التالية ، حيث انحلت الأخلاق وتفسخت الأعراف الإجتماعية، وسرت عدوى المدنية تنخر فيها. ويكاد يكون الهجاء في الشعر العامي اليمني سباً وشتماً كله ماخلا قليل من القصائد التي ترقى موضوعياً وفنياً إلى ذلك الهجاء الذي ننشد الحديث عنه، اما الباقي فقد بُني على الكذب والزور والإدعاء وإلصاق الشين بما ليس في المهجو، ولا فنّ فيه ، ولا فائدة منه سوى الإضحاك وملء الفراغ.

ولا يختلف الهجاء العامي اليمني عن الحكمي إلا في اعتماد العامي إعتماداً يكاد يكون كاملاً على (بحر الرجز)؛ ذلك البحر العربي الذي رفضه الشاعر الجاهلي خاصة حيث لا ينظمون على الرجز، ويدعونه " حمار الشعر" ، لأن الهجاء أجلّ من أن يأتي عليه. والرجّاز عندهم ، وإن أجاد ، لا يبلغ في الهجاء به مبلغاً عظيماً. قال (ابن سلام):"والرجز لا يقوم للقصيد في الهجاء ، وذلك لأنه لا يفي بالوعيد ولا يقوم بمتطلبات التهديد، لسهولة امتطائه". أما شاعر العامية فقد امتطى (حمار الشعر) ومشى به ، ومن على ظهره انبرى يقذع ويقذف لهباً بدلاً من أن يلقي التحية والسلام.

     الهجاء الشخصي

عيّر شاعر الهجاء بالعيوب الخلقية كالعمى والعور وانقباض الوجه، والطول والقصر وغيرها. فالرجل طويل القامة مهاب مرغوب فيه، وقصيرها مذموم خامل الذكر. قال (بحاشرة) صاحب بيت عياض يهجو قصيراً، من (الرجز التام):

صححتون للعبد ، صلاته جائزة  *   ذي يدخل المسجد وكرعانه يبوس

كُلّه من (علوان) ذي قـــد كبّره  *   م العـبد بـا جيبه فـي حفـره نكوس

إن المهجو ، لقصره وعدم تساوي يديه ورجليه ، لا يستطيع غسل مرفقيه وكعبيه حال الوضوء فيؤدي الصلاة بوضوء ناقص.

والرمي بالبخل طبع قديم في العرب. البخيل "النادري" ممقوت مذموم، و"الحاتمي" الكريم محبوب مبجّل. قال الأخطل:

قومٌ إذا استنبح الأضيافُ كلبَهمُ  *   قالوا لأمهمُ بولي على النار

وقال عبيد محلتي  صاحب الوهط ، يهجو أهل عمران الصيادين ، (من الرجز التام):

مروّة (العمراني) مرض وافي  *   تعدّمك العِيشة وراس المال

بعـــــــد السنة لا كــَدْ لك ربطة  *   منّـك يشأ فـي ربطته دسمال

وقال (علي أحمد بحاشره ـ صاحب بيت عياض) يتندّر بأهل العرس البخلاء الذين استدعوه لإحياء احتفالهم بالمديح والثناء، ولكنهم نسوا أن يكرموه فقلب عرسهم جحيماً. قال (من الرجز التام):

يا اهل الحراوة ما طعمنا رزقكم  *  لا من (الكنب) كِسْرة ولا من (البحرية)

لا قد  الحراوة هكذا في شرعكم  *   با نزوج  (العرّي)  على  ذي (العرية)

وفي نعت الشاعر للعريس بـ(العري) وهو القط الكبير الحجم القبيح المنظر ما فيه من الهزء والتجريح، ومعلوم أنه لا تليق بالعري (العريس) إلا عروسة (عريّة) مثله.

ولعبيد محلتي هجاء مرّ في (أهل البان) ما نزال  نتمثّل به ونتندّر. والمحلتي يستخدم في شعره (التذييل) البديعي فيخرج الكلام مخرج المثل السائر، قال:

ما شي سلا و(اهل البان) في الجُمرك  *  يتعشّروا حتى من كرا الجمّال

وعلى رجع ذلك قال الشاعر (أمبيلة) صاحب الحمراء عن أرض البان في منطقة (زايدة):

روّح الفايدة سالم ببدلة وكوز *   وفضل في (زايدة) يصنع مخانق وأُرْضة

وأقذع الهجاء وأمرّه هو ذلك الذي يكشف العورات ويطرق الأعراض، وحامل لواء هذا اللون شاعران هما: (بحاشرة) و(أحمد عنوبة) وكلاهما تنين يقذف لهباً. قال بحاشرة يهجو من أبوا مصاهرته، (من الرجز التام):

قد كان (ماعوضة) قبيلي ما اخيره  *    واليوم (ماعوضة) تمكّن بالرياض

ما با خـذ إلا مــن رجــال المجحفة  *  ولاّ المحلة  ذي قبل  ساكن عياض

… وهكذا ظل شاعر الهجاء العامي يقذع ويشهِّر على وزن "حمار الشعر" ،الرجز ، ويقذف حممه كيفما اتفق، فهو في خضم حميته وهيجانه لا يتورّع عن التنبذ بألفاظ تستحي من قولها الرعاع ، ولا يهتم إلا باقتفاء المعايب والمخازي ــــ  و" البغض يعمي عن المحاسن " كما يقول سهل بن هارون

__________________

1) د.عجلان، عباس بيومي: “ الهجاء الجاهلي ، صوره وأساليبه الفنية”. مؤسسة شباب الجامعة، الإسكندرية 1985.

■  نشرت بمجلة (الحكمة) ، العدد (164) السنة (19)  في سبتمبر 1989م

__________________________________________

image أغنية (منيتي مالي سواه) كلمات ولحن عبدالله هادي سبيت ، غناء فيصل علوي.