مثلت لحج إبان الحكم العبدلي حاضرة مشيخات وسلطنات الجنوب العربي وقتذاك ، وكانت "زاوية اليمن المباركة ، وزاوية العلم والتمدن"،(1) بل شابهت لحج بغداد العباسيين إن لم نقل ورثتها. فمثلما شاع الترف العظيم في البيئات الحاكمة والمتصلين بها في العهود العباسية حيث "افتنّ رجال السلطة وأصحابهم والأغنياء جميعاً في لذائذ العيش افتناناً ، قبسوا بعضه من أكاسرة الفرس الذاهبين، وثقافات اليونان والهنود ، وبعضه ابتكروه بوسائل الحضارة التي اجتمعت لهم .. وكثرت الجواري وتعددت الحانت لشرب الخمر وسماع القيان والمغنين".(2) حدث ذلك بعينه في لحج العبدلي ، فافتنّ رجال السلظة وأصحابهم بملذات العيش ، قبسوا بعضه من جيرانهم الإنكليز الجاثمين في محمية عدن المُباعة بعقد بيع مزور أثمت في نسخه أياد من بيت المُلا الأعجم ..، عدن التي ضمّت أجناساً مختلفة من عرب وهنود وصومال وأوربيين. وقبسوا بعضه من أرستقراطية الهند محمية الإنكليز الأخرى ومحج العبادلة ، وبعضه ابتكروه بوحي من طبيعتهم الساحرة التي تعج بالماء وبالخضرة والرياحيين ، وبوحي من تفاعل ذلكم المزيج من الناس، على تنوع خبراتهم ومواهبهم ، الذين قدموا إلى لحج ، معلمين ومتعلمين ، شعراء ورجال دين.
كان العهد العبدلي عهد حرية وحب ، وطرب وشرب. أبدع العبادلة في الشعر وفي الهوى ، كما برزوا في السياسة وفي الدين. أنشأوا المساجد وأقاموا السدود، ونظموا القصائد وبحثوا في أصل الوجود. احترموا الرأي والحرية الفكرية ، وشرّعوا القوانين، ووضعوا (الدستور اللحجي)، وأقاموا المحاكم الكلية والإستئنافية والمحاكم الزراعية. أنشأوا المدارس وانتدبوا لها معلمين من مصر والسودان ، وأوفدوا الطلاب إلى مصر والهند ولندن وبلغاريا .. أكرموا مُستَخدميهم وعلّموهم وما بخلوا عليهم بالألقاب ، كل بما يستحق.
آخى العبادلة بين التفاح اللبناني والعنب الهندي ، وجمعوا بين الشرق والغرب في الملبس وفي التفكير. حرية في الفكر وأصالة وعراقة في الرأي ، بساطة في التعامل ، ويسر في المعتقد ، وبهم نفحات مباركة استمدوها من ربهم الغفار الرحيم.
تعاطى السلاطين العبادلة الشعر وأحسنوا نظمه ، واهتموا بالشعراء وأغدقوا عليهم الأعطيات ، وقربوا العلماء وأجزلوا لهم الثناء. واهتم للشعر والشعراء كثير من طبقات الرعية ، على وجهٍ شبيهٍ بما كان يفعله الرعايا الأمويون والعباسيون ــ والناس على دين ملوكهم. فإذا العامة يتغنون بالشعر ويحتفلون بالشاعر. يحيون بالشعر أفراحهم وليالي تسامرهم ، يحفظونه ويستشهدون به في مناسبات الحياة المختلفة. وإذا كان العباسيون قد أسرفوا في شرب الخمرة حتى غدت غرضاً شعرياً قائماً بذاته عندهم ، فقد أسرف العبادلة في شرب الموسيقى والغناء. رقّقوا الشعر وخرجوا عن عموده التقليدي ، واستهواهم الموشح الأندلسي لتجدده وتنوعه وحريته ، فاتبعوه زمناً ، ثم تجاوزوه معنى ومبنى. استحدثوا في فن الغناء حتى غدت "الأغنية اللحجية" طرباً سلطانياً آسراً ، فأتمّت اليمن عرسها ؛ وطلعت على الناس متوشحة بتواشيح صنعاء ، ودان حضرموت بأذنيها قرطاً بديعاً ، ترفل في ثوب ذي أذيال مجرجرة من غناء عبدلي يخطف الأبصار ، ويأسر القلوب ، ويفتن العقول. وهكذا دارت الرؤوس وتمايلت (ميحة ومركّح)؛ وتثنّت الأعطاف ، وارتجّت الأرداف ، وماحت القلوب الخالية من الهموم ، المتوجة بالورود ، والعقول المتأججة بنيران الولاء للسلطان وللحبيبة. ودارت الكؤوس سريعة صرفة دون أن يخالطها ماء من (بير ناصر) ليخفف حدّتها ــ والغناء والخمرة متلازمان.
عاش الشَّرْبُ ، وماذا كان ينقصنا بعد !! لقد غلبت ميكرفونات المخادر نداءات الأذان فاختلّ الميزان.
شرب العبادلة الخمرة ، ولكن الشاعر اللحجي ـ وإن كان عبدلياً ، لم يشربها افتخاراً وتباهياً كما فعل الجاهلي فالأموي ، ولا التماساً للذة والنشوة كالشاعر العباسي، بل ليغرّق في كاسها همه وحزنه وقهره، ورفضه لخضوع مليكه لأهواء الإنكليزي المحتل وأطماعه خصوصاً وأن الشاعر لا يملك غير النصح ، قال الشاعر صالح فقيه:
وين ذي ما يهمّوا اللوم وقت الحساب * عن بيعة الرُّخص لا تمّت بسوق الحَرَاجِ
يصبحـوا تحـت أمـر الديك يلعـب بهــم * وانْ حَـد تعــرّض بكلمة قــال ذولا دجاجي
وقـت مـا النــاس تتحــرّر يبـونـا عبيـد * نسلّـم الأمــر نصبـح بين خــاضع ولاجـي
لم يهتم الشاعر اللحجي بالخمرة إلا كتقليد شعري مثله مثل الطلل في قصيدة عمرو بن كلثوم وطرفة وأقرانهما. فالأمير الشاعر عبدالحميد عبدالكريم في موشحته :"طاب يا زين السمر"ـ موضوع درسنا ـ لا يتصدى للخمرة بقصيدة مستقلة قصد اللهو والمجون ، بل هرباً من مواجهة نفسه ، ومن مواجهة (ظلم ذوي القربى..) إذ لم يكن يتحدّر من البيتين العبدليين الأول والثاني اللذين علّاها تباهياً وافتخاراً وإيهاماً للذات بأنهما سيّدا الدهر وسلطانه ، بل هو من البيت العبدلي الثالث الذي لم يُمَكَّن من الإشتراك في حكم لحج. ذلك البيت الأميري الذي أُغدقت عليه العطايا خوفاً من منافسته للبيت الحاكم في المجد والسلطان ، على وجه شبيه بسياسة الأمويين للنفر من قريش في الحجاز .. فاعتزل أهل الشاعر ــ طوعاً أو كرهاً ــ السياسة وتفرغوا لترف العيش ، وللأخذ بأسباب من اللهو كالغناء والشرب ، والعناية بالشعر وبالحب.
وهكذا قنع الأمير عبدالله محسن بالبقاء في داره (دار عبدالله) متنازلاً عن لقب "الأمير"، كما قنع وارثه عبدالكريم ـ والد شاعرنا ـ ببستان في (الحبيل)؛ إقطاعيته التي ورثها ولده في شعره بقوله:
سرى الهوى ركّب عَشيْ يمطر على راس الفؤاد * وســال سيــل الشوق سقّى طين قلبي والرّوَاد
وهيّـج الخـاطر ، وشبّت نــار فــي وسْـط الكِبـاد * قد احترق قلبي مـن الفُـرقة ولازمني السُّهـاد
وتراكمت الاشجان ، ضاق الحـال زاد الوجـد زاد * حنين قلبي والهوى أعلن على صبري الجهاد
تذكّــر الخــاطر ظبـاء (حَيــْط المُخَـرَّج) و(الخـداد) * ومَـن سكَــن (حبيـل عبدالله) وقرية (بن زياد)
حُكى ، حُكى أنسـى الأحبّــة والموالــــــد والعِيـــاد * أعياد فـي أعيــاد فـي تلك المواسم والحصـاد
أما شاعرنا فلم يكفه التنازل عن لقب الإمارة واعتزال السياسة كما فعل جده فأبوه ، بل زاد ، تعبيراً عن رفضه الإنتساب إلى السلك العبدلي الحاكم ، أن حذف "الحميد" من اسمه مكتفياً بـ"عبده"؛ فإذا ما قرأ قارئ أو سمع سامع الإسم: "عبده عبدالكريم" من دون تأمير ولا تحميد حسبه رجلاً من الشيخ عثمان ، لا علاقة له بالإمارة والسلطان ، ولا حتى بفرسان الجمارك (أهل البان).
زالت الكُلفة وامّحت الفوارق ، فأحب أهل لحج عبدالله وداره، وعبدالكريم وحَيْطه (بستانه)، وعبده وشعره. وعوّض الله عبده "عبدُوه" عن الإمارةِ الأمّارة بالحقد والحرب وتاج الذهب ، بإمارة الأدب ، الأمّارة بالشعر وبالحب والطرب ومعاقرة بنت العنب.
وبعد ،
أما وقد حلّ الشاعر عبده عبدالكريم عن نفسه ثوب الإمارة الثمين ، واعتمَّ عمامة الحرف الرصين ودخل ، طائعاً ، وادينا عبقر ، فليسمح لنا مدّة تعاطينا لموشحته أن لا نسلّم عليه بتسليم الأمير كذلك الأعرابي الذي قدم على معن بن زايدة الشيباني الوالي العباسي الحليم في النادرة المشهورة .. فبذلك يمكننا أن نتولى درس موشحته وتحليلها فنبيّن زينها من شينها ، وننزع منها إلى الخصائص التي يختص بها شعره الخمري، وشعارنا قول شيخ النقاد: " لقد شبع أدباؤنا تقديساً فلنشبعهم نقداً "؛ ووادي عبقر ليس به غير الشعر والنار، ولا يقطنه إلا الشعراء والشياطين ــ والعياذ بالله ، فمن كان عمله صالحاً فاز وغنم ، أما من ركّ عمله وضعَفْ أمر إبليس أهل عبقر ليخرجوه فيفعلوا ــ ولا تعجب فإن بين الشعر والخمر والشيطان إنتساب ونسب.
هذه كلمة كان لابد منها، وفيما يلي الموشحة ، موضوع درسنا ، كاملة ، نوردها كما سمعناها مغناة بصوت الفنان فضل محمد اللحجي، (من مقام االحجاز على درجة الدوكاه ، الإيقاع: شرح لحجي ثقيل/ سلطاني):
لازمة
ساقي الأحباب من قطر الثمر / ديرها نحـوي وفي طرفة نظر / طاب يا زين السمر
دور أول
هـاتها يـا صـــاح بالله هاتهـا
هلّـت الأفــراح فـي كاساتها
قسمـاً فيهــا وفــي لَذّاتــــهـا
قفل: منها قلـبي قط ما ذاق الوطر / طاب يا زين السمر
دور ثان
هاتها يا صـاح في أقـداح اللُّجين
ديــرةٌ عنوانهــا الرُّمـح الرُّديـن
وإمـــامي بـابــــــــليّ المقـلتيـن
قفل: يترنّـم كالقضيـب المُشْتَهَر / طاب يا زين السمر
هاتهــا بالله يـا رمــز الأدب
عسجدية لونهـا فـاق الذهب
واعطِنِيها وطقاطيق الطــرب
قفل: تعزف الألحــان مع نغم الوتر / طاب يا زين السمر
وحمــام الأيك يسمِعُني الزجيــل
فوق غصن البان إنْ مالت يميل
مُمَثِّـلٌ فــي دوره الـدورَ الثميل
قفل: قــائلاً: ( ما بـزَّ إلا ما انتَشَر ) / طاب يا زين السمر
تظهر المعاني التي تصدت لها هذه القصيدة ، والتي لم تخرج عن عمود الشعر العربي القديم ، بحلة جديدة وذلك في توزيع القافية وفي شطر الوزن. فالشاعر يستهلها بلازمة منادياً بها الساقي، ومادحاً ضمناً ندمائه الذين وصفهم بالأحباب، إلى إدارة الكأس بسرعة نحوه. وفي هذا النداء والإستحثاث للساقي بإداراتها نحو الشاعر، ما يدلّ على تميّز الشاعر عن غيره من الندامى فهو أكثرهم عشقاً وشوقاً لها ذلك أن ثقل الفعل "دير" قد جاء ليقع على "نحوي" دون سواه. وحلوة تلك المداعبة في حث الساقي على الاسراع وإدارتها في لمح البصر، فإدارة الكؤوس الملآنة بسرعة هو كناية عن كثرة ما يشرب من الخمرة ، وهو تقليد عرفناه عند الشاعر العربي ، ولقيناه بعينه عند الشاعر الغربي ؛ يقول (لفليس -Lovelace) في قصيدته (To Althea, from Prison):
When flowing cups run swiftly round
With no allaying Thames
Our careless heads with roses bound
Our hearts with loyal flames
Know no such liberty
ويقول الأعشى رائد الشعر الخمري في العصر الجاهلي:
وشمـولٌ تحسب العين إذا * صفقت ، وردتُهـا نـَور الذبح
مثل ذكْي المسك ذاكٍ ريحها * صبّها الساقي إذا قِيلَ (تَوَح)
و" تَوَح " أمر من توحى أي أسرع. والشاعر العبدلي استعاد هذا المعنى الشائع المستنفد لكنه كنى عنه والمح إليه وبالغ به ، وطبع عليه من روحه المرحة: (خلّيك سريع وخفيف).
ثم يواصل الشاعر ما شرع فيه في اللازمة ، ويتواصل نداؤه للساقي والحاحه ما ينمّ عن تعمد الشاعر التظاهر بشربها أمام اللاحين والمتعنتين لا عن تلذذه بالخمرة. وهذان النداءان في:"هاتها يا صاح ، بالله هاتها"، وهذه الباء في القسم التي جاءت بعد مثبت لتأكيده ، وهذا المنادى المحذوف حرفه الأخير ترخيماً في "ياصاح" جميعهم ينتظمون في سلك خمري عبدليّ واحد ليشيعوا ظمأ الشاعر للخمرة وحاجتهوحده لها. وهذه المخالفة في توليد النتيجة (في الشطر الأول من الدور الأول) من السبب (في الشطر الثاني منه) تبرّر تهالك الشاعر عليها؛ فكيف لا تثطلب وهي كالفرح في الكؤوس؛ وهذا التوازن في التشبيه وتواقع المعاني بالسببية والتطور مع وحدة الموضوع الذي طرقه الشاعر يشكل الوحدة الفنية لهذه الموشحة. الوحدة العضوية التي تقوم على الترابط الحي بين أجزائها ، فلا قلق ولا اضطراب.
إنّ الشاعر جدّ ظمآن لنورها الذي بدا كهلال يتلألأ في الكاسات ، نورها الذي انسكب عليه نور الهلال فكان نوران، وإضافة النور إلى النور يولد ناراً وضراماً وظلاماً. كيف لا ، والخمرة "تخدّر مركز الوعي في الذهن ، فينعدم العقل ويغرق الوعي في عالم الضياع والغواية والابسنت" ـ على حد تعبير الأديب إيليا حاوي.(4)
ويتوالى النداء ، ويتكرر القسم في ذات الدور صريحاً هذه المرة:
قسماً فيها وفي لَذّاتها * منها قلبي قط ما نال الوطر
والقسم بالخمرة ولذاتها على الجمع يذكِّر بقسم ابن هانئ:"ثنِ على الخمر بآلائها"، وهي تجلّة لم تكن في نفس الشاعر العبدلي بقدر ما هي في طبيعة التقليد واقتفاء معاني الآخرين وترسّم أسلوبهم. قال الأخطل نديم يزيد بن معاوية وشاعره:
تمرُّ بها الأيدي سنيحاً وبارحاً * وتوضعُ باللهمَّ حيّ وتُحمَلُ
ويتمثل الخمرة حبيبة لم ينل منها وطراًن وهومعنى مكرور مستنفد وجدناه عند الأخطل وأبي نواس وغيرهما. قال الأخطل:
عذراء لم يجتلِ الخطّاب بهجتها * حتى اجتلاها عباديٌّ بدينار
وتدور الحبيبة المنسكبة في أقداح الفضة على أفواه الشاربين على سعادة وغبطة:
هاتها يا صاح في اقداح اللُّجين
ديــرةٌ عنوانهــا الرُّمح الرُّديـن
وإمــامي بـابــــــــليّ المقـلتيـن
قفل: يترنّـم كالقضيـب المُشْتَهَر / طاب يا زين السمر
يتواصل نداء الشاعر طلباً للخمرة وحثّه لساقيه (الصاحب الصاحي) .. فيرى الخمرة قضيباً من الفضة ، وينظمّ إلى عشيرة أبي نواس لأن إمامه البابلي المترنم المنتصب كقضيب مشتهَر يوافق إمام الشاعر العباسي الأبيض الذي "قدّه قضيب بانٍ فوق كثيب".
ويلتفت الشاعر مرة أخرى إلى الساقي فلا يغمطه حقه من الوصف. فالساقي "رمز الأدب"، خبير بالخمرة يقدر أن يفرّق في يسر بين المطبوخة على النار والمعمولة في الشمس ، بين بنت المعصرة وابنة التنك ؛ وله بالأدب دراية تبزّ الشاربين. ويلذ لشعراء الخمرة مناداة الساقي بالصاحب لاشتراكه في المنادمة ولكن دون إفراط حتى يعي ما يفعل ويقوم بخدمة الشَّرْب خير قيام ، لذلك يُنادى:(يا صاح) ترخيماً. ما أجمل هذا النداء، فالمنادى قد استقام على ضم الحرف المحذوف ، لم تذهب الخمرة سوى بالجزء الأخير من "عقله".
وساقي العبدلي أديب وشاعر وسكّير نحرير ، ولكنه يقصّر عن ساقي ابن هانئ الذي:
حلّ على وجهه الكمالُ كما * حلّ يزيدٌ معاليَ الرُّتبِ
إنّ بين العبدلي وبين غيره من شعراء الخمرة فروقاً: فالأعشى "يشربها مفتّشاً عن رزقه ، والأخطل يشرب ويأكل ، وأبو نواس يشرب وعيناه على النديم والساقي"(4) أما العبدلي فيشرب ويغني ، وساقيه عبدليّ الذوق ، أديب متأدب فنان ، يقول الشعر ويحفظه ، ويرويه ويشربه.
ثم يعرض الشاعر إلى لون خمرته فيبالغ في وصفها كالأندلسين ، فهي عسجدية فاق لونها لون الذهب ، فالذهب يشبه في توهجه توهج الخمرة في الكأس وهذه الإستعارة وجدناها عند الأعشى الذي شعاع خمرته من قرن الشمس. وهكذا يتحول العبدلي إلى أعشى آخر تتوهج ألوان خمرته في هالة حول الكأس:"هلّت الأفراح في كاساتها".ودورتها كالرمح الردين يتّفق وتشبيه الأعشى لشعاع خمرته بالسهام في قوله:
مشعشعةٌ كأنّ على قراها * إذا ما سرّحت قطعاً ، سهامُ
وينتقل الشاعر إلى معنى مستنفد آخر حيث يلذ له شربها مع الندمان في متنزه جميل تحيط به الأشجار والأزهار وهم يستمعون إلى نغم الأوتار، وشدو الأطيار المغردة على الأغصان، ويتمايل الحمام على غصون البان محاكياً في تمايله تمايل السكارى، فتحسبه ثمِلاً وما هو بثمل بل ممثل مجيدٌ لدور الثمل ، هاتفاً: لا شرب إلا "ما كان جهاراً بافتضاحِ":
وحمام الأيك يسمِعُني الزجيل
فوق غصن البان إنْ مالت يميل
مُمَثِّــلٌ فــي دوره الـدورَ الثميل
قفل: قــائلاً: ( مـا بـزَّ إلا ما انتَشَر ) / طاب يا زين السمر
لقد أسقيَ الأمير ، بناء على طلبه ، خمسة كؤوس أميرية فدبت الخمرة في أوصاله " كدبيب نمالٍ في نقاً يتهيّلُ " فإذا هو يتحكك كصاحبه الأخطل. تعتعه السكر فانبطح نشواناً " خذوَلَ الرجل من غير كَسَح ". شرب المنكوت كأسه الخامسة فهبّ يعلن عرسه الفاحش علانية. لقد وحّدت الكاس الخامسة جميع حواسه الخمس؛ ففي قوله: " ما بَزّ إلا ما انتشر " نقع على شيء من وحدة الحواس ، إذ اراد الشاعر أن يطرب بسماع اسم الخمرة كطربه بشمها وتذوقها ، وبرؤيتها ولمسها ، مشركاً حواسه الخمس في لذة الشراب ، على مذهب الحسن بن هانيء ، حيث تمّحي الحدود بين حواس الشاعر وتصبح كأنها حاسة واحدة. يذوق الشاعر بعينيه كما يذوق باذنيه وبباقي الحواس ، وفي هذا المعنى قال أبو نواس:
ألا فاسقني خمراً وقل لي هي الخمرُ * ولا تسقني سرّاً إذا أمكنَ الجهرُ
لقد احسن العبدلي ترجمة بيت أبي نواس إلى لهجتنا السهلة المسكونة . عاش الشاعر الكبير ، والأمير "الخطير" ـــ والله وخطبنا بنت باخُوس؟!
[ يتبع ]
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أمين الريحاني:"ملوك العرب"،1987. دار الجيل ، بيروت – لبنان ، ج1ن، ص433
(2) رئيف خوري:”التعريف في الأدب العربي"،1963. مطبعة الجبل ، بيروت – لبنان ، ص 154.
(3) إيليا حاوي:" فن الشعر الخمري"، 1960. دار الشرق الجديد ، بيروت – لبنان.ص28
(4) مارون عبود: " الرؤوس "، 1972. دار مارون عبود ودار الثقافة، بيروت – لبنان. ط 5، ص112
■ نشرت هذه المقالة في (ديوان الأمير"طاب يا زين السمر") بطبعتيه:طبعة صنعاء عام1999 وطبعة صنعاء عام 2004 ، وفي جريدة (التجمع) الأعداد: (357و358و359) في 26 يوليو و2 أغسطس و9 أغسطس1999)، ثم نشر مرتين في جريدة (الثقافية) في العددين (79) في 2001/2/8 ، والعدد (199) في 2003/7/10.
___________________________
أغنية ( طاب يا زين السمر ) كلمات ولحن: عبدوه عبدالكريم ، غناء: فضل محمد اللحجي
المقام: جنس حجاز على درجة الدوكاه ، الإيقاع: شرح لحجي ثقيل/سلطاني (12/8 ، 2هاجر+مرواسين)
أغنية ( سرى الهوى ركّب عشي ) كلمات ولحن عبده عبدالكريم ، غناء: فيصل علوي (3)