الشعراء رُسُل حياة ، وعلماء أخلاق ، وأساتذة تربية..
الشاعر كاهنٌ دجّال ، وساحرٌ كذاب ، ومجنون به مَسٌّ من عَبْقَر .. يقذفه (الهاجِسُ) في المدى فتتلَقَّفه أحضان (الحلِيلة) فلا يتركها طالقة
الشاعرُ كذاب ، والشعرُ كذِبٌ كُلّه .. ونكايةً بالمعلم الإغريقي قالتِ العربُ: " أعذب الشعر أكذبُه " ..
العرب عُبّاد الشعر، وعبيدُ الفصاحة. والشعر عِلمُ العرب الذي ليس لهم علم غيره. عبدَ العربُ الشعرَ أو كادوا ، وآثار ذلك ظاهرةً من قبل عهد (ابنِ خُذَام)، مُعلِّم ذي القُروح ، وحتى الليلة .. كتبوه بماء الذّهب وعلَّقوه بأستار الكعبة ، وبلغ شغفهم به شأواً بعيداً فَسجدوا له تلك السَّجدةَ المخصوصة بالشعر ..
نشد العرب الشعر وأنشدوه وتناشدوا به ورتلوه على وضوء كأنه كتاب منزل ؛ ذلك ما فعلوه مع "ميمية المتلمِّس" ، وبذلك أمر الملك عمرو بن هند مع قصيدة الحارث بن حلزة – كما خبّرنا الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء صادقاً غير كاذب.
قدَّروا الشعر ، واحتفلوا بالشاعر ، وافتخروا به وفاخروا ، وكانت العرب تقرُّ لقريش في كل شيء إلاّ الشعر فأقرّت لها به حين جاء أبو جوان محبوب النسوان – ليغدو للعرب كالعجم "دون جوان". قالوا عن فصاحة الشاعر : هذا شاعر بكرُ عَطَارِد ، قد أُنزِلَت الفصاحةُ على لسانه ، وعطارد إله الفصاحة عند اليونان، فالشاعرُ نبيّ أو بكرُ إله ..
الشعر نسك مدارُه الغيب والمجهول ، والشاعر نبيّ أو بِكرُ إله ..
الشاعر كاهنٌ دجّال ، وساحرٌ كذاب ، ومجنون به مَسٌّ من عَبْقَر ..
بعد أن يستمع سقراط لنبوءة دلفى بأنه أحكم الناس ، يطوف بالشعراء يسألهم عن معاني أشعارهم فيجد أنهم يقولون ما لا يفهمون . ومن يقول ما لا يفهم مجنونٌ ، مجنونٌ..مجنونْ. إنَّهم كأبواقٍ تخْرِجُ أصواتاً ليست منها . .كأن – بل لكلّ شاعرٍ صاحبٌ من الجن يلهمه الشعر .. ذَكرٌ .. ولبعضهم صاحبة أو(حليلة):
إني وكلَّ شاعرٍ من البشرْ شيطانهُ أنثى ، وشيطاني ذكر
الشاعر فوق الفيلسوف بدرجتين ، والشعر أسمى من الفلسفة. مداره الشعور الإنساني ، وأساسه الخيال ، وغاية صاحبه تمهيد الطريق لابن الإنسان إلى الحقيقة – والحقيقة والجمال صنوان كما عبَّر كيتس عابد أوثان الإغريق:
"Beauty is Truth, Truth Beauty "
الشاعر عند الإغريق وفي لاتينيتهم Poeta و Poetes يعني (Maker) ..
القصيدة ظل الظل ، والشاعر لا ينقل الحقيقة ولا يقولها ، وهو أبعد عن الواقع بدرجتين:
“The poem is an image of an image, twice removed from reality”
كذلك هو الأمر عند أفلاطون "Poets are liars" ؛ لأنهم يحيدون عن قول الحق الصُّرَاح ؛ لذلك استحقوا الطرد والحرمان من نعيم " الجمهورية " جميعاً ، وما أستُثنِيَ منهم هوميروس ولا هسيودوس .. فقد كذبا على الآلهة إذ جعلوهم يُحبُّون ويُقاتلون ويرتكبون من الآثام ما يُعَاقَب البشر على ارتكابه ..
.. لا ! لا بأس ، إذا أراد الشاعر أن نشمله برحمتنا ، فليعلن التوبة أولاً ، ثم عليه بالترانيم الدينية وامتداح الرجال العظام . ليكن الشعر خادماً للتعليم السياسي والأخلاقي – كذلك قال تلميذ سقراط . ولم يلق من يسقه الـ (Hemlock) التي أُسْقِيها مُعلّمه !
الشاعرُ كذاب ، والشعرُ كذِبٌ كُلّه
ونكايةً بالمعلم الإغريقي قالتِ العربُ : " أعذبُ الشعرِ أكذبُه " ..
وكذّبَ أرسطوطاليس تلميذَ سقراط ، وقال : ليست مهمة الشاعر أن يُصوّر لنا الحياة كما هي بل أن يخبر عما يمكن أن يحدث ، والممكن يكون بحسب الاحتمال والضرورة ، والضرورة هي كل ما يدعوا إليه الارتباط الوثيق بين الحوادث . إنَّ عالم الممكن الذي يخلقه الشاعر أكثر مادية من عالم التجارب . الشعر يسمو على الحقيقة ، وأشخاص سوفوكليس أرفع من البشر وأسمى من الواقع ..
إيه ، الشاعر مرآة عصره ، فيه تتجلى الحقيقة واضحة لا غبار عليها . يستبق الحوادث فيهيئ أسبابها ، يسايرها فيُغذيها.. يجيء بعدها فإما يقرها أو ينتقدها .
والخيالُ مادة الشعر ومدماكه ومداه. فإذا لم يكن الخيال كَذِباً ، فماذا يكون؟
ولكن على الشاعر أن يكذب بمهارة . أي كما يقول شاعر الرومان هوراس:" مازِجَاً الكذِب بالصدق دون تناقض " ــ عليه أن لا يعرض المحال الذي لا يقبله العقل.
الشاعر "خالِقٌ" MAKER – كما آمن الإغريق ، وهو ليس بـ(صانِع) . شِعارُهُ الخيال لا الفرجار ، فلا تحسبه ماسونياً . ومن الخير أن تجهل كيف يخلق الشعر ،" فليس شيء أدعى إلى انحطاط الشعر من أن يكون صناعة ، كما أنه ليس شيء أسخف من أن يكون التأثر به تَصَنُّعَاً "، على حدِّ تعبير السكاكيني.
في أوّلِيته ، خاطبَ الشعر المجهول ، ونحا نحو التقديس . استقرَّ في المعابد والهياكِل وبيوت الآلهة . عظَّمه اليونان والرومان ، وأفسحوا لصاحبه في محلِّ JUPITER ملك الآلهة ، على مقربة من فينوس (Goddess of Love) . وأجَلّه العربُ الجاهليون ، وعبدوه فيما كانوا يعبدون. أو بتعبير جرجي زيدان:"علَّقوه بإزاء آلهتهم ، ونقشوه على جدران وأبواب منازلهم ، وعلى القناني والأقداح ، وكتبوه في صدور مجالسهم ، وطرَّزوا به الأسرَّة والوسائد ، والثياب والمناديل وحتى النعال والخفاف . وامتدَّ هذا التعظيم إلى عصور تالية ، وبلغ أوجّه في عهود بني العبَّاس ، فكيف التفتَّ رأيت الشعرَ منقوشاً أو مطروزاً أو مكتوباً أو منسوجاً ".
لَقَّنوا به موتاهم ؛ فكان الميت يسمع القصيدة فيطمئنّ في قبره ، وتسكن روحه وترتوي ، فلا تتحوّل إلى (هامة) أو (صدى) تصيح فيهم كل حين : اسقوني ..
يا عمرو ألاّ تدَع شتمي ومنقصَتي أضربك حيثَ تقول الهامة اسقوني
تساءل الشرقيُّ القطامي ماذا كان العرب يتلون على موتاهم في الجاهلية قبل نزول القرآن الكريم ، فأجابه الأصمعي وآخرون كانوا عنده أنَّ العرب كانوا يقرأون على موتاهم الشعر.
يوم كان السّحرُ يدير الحياة البشرية ، كان الشعر محضَ ترانيم دينية وترجيعات موزونة مُقفاة تسبحُ في سحُبٍ من دخان الحنتيت والكبريت والكزبرة والمُصطكى ، يجد فيها الإله الوثن راحته ، ويأخذ منها الشيطان خاصته ، ويلقى الإنسان ضالَّته . ويكون الشاعر في هذه الغوشة ما بين يدي المهارق بِمعِيّة "الصاحب" أو"الرائي" أو "القرين" – والسعيدُ من كان شيطانه ذَكَر ..
أما شاعر العامية فله صاحبة . يقذفه (الهاجِسُ) في المدى فتتلَقَّفه أحضان (الحلِيلَة) .. فلا يتركها طالقة :
جفاني النوم وانا والليل مَقلب مسى الهاجس معي ساهِن حليلة
صحا قلبـي مع النجمة وطرّب يبأ شـربة ، ولا واحد رثي له
وبعد ألفي عام ..
‘The poet’ this word comes from the Greek word ‘Poites’ that means ‘to make’. So the poet means ‘the maker’.
يقول سِدْنِي:
" I know not whether by luck or wisdom, we English-men have met with the Greeks in calling him 'a maker'
الشاعر طائرٌ غرِّيد ، Unbounded ، لا يعترِف بقيد . هو مِتباع الجمال أيَّانَ رآه أو سمع به .. ولو تجسَّدَ في شخص شَقيقته . يُطْرَدُ اللورد المُوَقر بايرون من إنجلترا ، فيطوف العالم سباحةً وعلى أقدامٍ عُرْجٍ ، ثم يستقرّ في أحضان الغانيات بإيطاليا ، لِيشربَ الخمرة في كؤوسٍ صُنعت من جماجمِ العبيد !
إنه رسول حرية ، يعشق التحرر إلى حد التحلّلِ والفسوق . هو مناضل من أجل الخير والعدل لابن الإنسان . كلّ العالم وطنه ، ولا يبغيه إلاّ حرّاً مستقِلاً – وينذر رأسه قبل كل الرؤوس .. يَمتَطُّ من LEBRITY إلى LEBRITINE ، ولا بأس من أن يأخذ هَجْعَةً في المَوسَطة – على حَرفٍ أو حرفين
الشعرُ شَيطنة ، والشاعرُ فرْخُ إبليس الرَّجيم ..
والشاعر في جوهره يقوم على التخطّي والرؤيا والاستباق الواثب بطموح وجبروت .. قال ميخائيل نُعَيمة: "ونفسُ الشاعر الإنسان مُدرِكَة ، مسئولة ، وروحه مؤمنة ، وهما متحدتان . فهما جزء من إله أو فيضٌ من إله ، أو قبس من إله ، مبتغاهما أن تصلا إلى الحنين الأكبر، أو الفهم المقدّس ، أو المعرفة الكبرى ، وتتحدان به ".
هي الرحلة من الحقيقة الكبرى (الموت) إلى المعرفة الكبرى ، وهي العودة إلى المنبع الصافي بعد التخلّص من الجسد.
الشاعرُ مجْذُوبٌ طعّان ، كأنّ بيرقه في (مولد سُفيان) .. ففصَّل له (إيون) نظرية تشبه الجذب المغناطيسي: "الإله يجذب الشاعر ، والشاعر يجذب النظارة".
الشعراء رُسُل حياة ، وعلماء أخلاق ، وأساتذة تربية . هُم كما عبَّرَ (شِللي - Shelley) الذي شَرَب من نهر النسيان الذي يشرب منه الموتى في العالم الآخر :
”We are the unknown legislators of the world”
ومهما يكن الأمر فان الشعر ، كما قال السكاكيني : حاجة من حاجات الإنسانية لا تستغني عنه في حال ، كان حاجة في بداوتها ، وهو حاجة في حضارتها ، هو حاجة إذا سعدت ، وهو حاجة إذا شقيت ، وانه لمن حظِّ الإنسانية أن يكون فيها شعراء وإن قلّوا ■
■ نشرت المقالة بجريدة (الثقافية) العدد (84) في 22/3/2001
_____________________________________________
أغنية ( ربّ غفّار ونحن منها با نولّي ) ، غناء رمزي محمد حسين