شريط

12‏/9‏/2013

فرحة العود في طرب عبود

المطرب عبود زين صغيراً2

 

يا باقطيانفي زمن الفضائيات هذا نرى الأمم تتسابق إلى عرض معارفها وفنونها وما لديها من جمال. وهذا لبنان  العربي يعرض وجهه الحضاري فناً وجمالاً ومعرفة وجهاداً فأرغم العالم على الاعتراف حتى بجهاده. وهذه فضائيتنا اليتيمة تعرض أغنيتنا ترفل في العشوائية والبدائية: موشحات عتيقة على ضرب واحد لم تمسسها يد التغيير من ألف عام, وأغان يابسة المعاني ، ضيقة الأفق ، خشنة النغم ؛ ما يحمل الآخر على التحقق مما يُحشى به من أن العرب جمّالة قساة القلوب وضعاف العقول.

غدت الموسيقى اليوم عنواناً للحضارة ووسيلة علاج ناجعة , ولم تعد ثعبنة يحتاج متعاطيها للرَّقي كما ذهب صاحب كتاب "رقية المصاب بالعود والرباب".. وكانت الغلبة لبدرية العبدلي صاحب "فصل الخطاب في إباحة العود والرباب". وكانت المفارقة أن يقتحم أولاد السادة ميدان الطرب فيبدعون ويصبحون في مضماره أعلاماً، ذاك أبوبكر بلفقيه يرد بالدان بعد أن كان ترديده مقصوراً على (باسعيدة)، وهذا عبود السقاف يترنم بالدان اللحجي، ولنا فيه قدح أعلى.

عبود وفيصل علويهذه هي الأغنية اللحجية المتدثرة بمعاني المحبة، والمكللة بالورود والرياحيين، والمتطيبة بالبخور واللادن، و"العنبر الأصلي في ساحلي مجدوح"، الجالسة ألحانها على رقصات بديعة صقلتها السنون، يتدفق منها الفرح اللحجي تدفقاً، وتنثال منها المحبة شلالات بيضاء وميازيب لا يعتورها عيب. وهذا السيد الوهطي قد أطلق صوته في الأثير فقيّد المعنى الشارد واللحن الآبد ووضعهما في حنايا السلك نغماً خالصاً. ومَن أبدع من عبود في العزف والأداء، إنه يؤدي الأغنية اليمنية بكل ألوانها باقتدار عجيب , وليس هناك من يدانيه من مطربينا في اليمن والخليج روعة وإطراباً. إنه مطرب كل الجزيرة ولا أحاشي من الأقطار من أحدِ.

الأستاذ أبوبكر عدس2يمر عبود بالخيامية بمعية المطربة المغربية (فدوى) ويدندنا - على ريشته - بـ"ما أضيع اليوم الذي مرّ بي"، فتشهد السحَر قد استفاق مرحاً منادياً هذا اللحجي لمناغاة الوتر. ويدخل على الموشح الصنعاني من اللازمة فيزيده حلاوة وطلاوة ؛ ويطوف بأدواره ويخرج وقد صارت خرجته أبهى وأشهى وأرق؛ فهل سمعته وهو يغني من شعر الآنسي الصنعاني:

يا غصن لابسْ قميص اخضر مشجّر وطاس * لا زال عـنـــك النمـا

يا مُبتسمْ عن عقيق أحمر وأفصـــاص ماس * من صنع رب السما

 يتفرّد هذا المطرب  في قدرته العجيبة على أداء كل ألوان الغناء اليمني , على تنوعها واختلافها, بإتقان وبإطراب لا تجده عند سواه. لذلك وجدت اللحجيين والصناعنة واليوافع والحضارمة وأهل الحديدة وأهل الجزيرة يفسحون له في صدور مخادرهم ومحافلهم ومجالسهم. ولقد استحق إعجاب ومديح كبار الشعراء كالسيد المحضار والشيخ العمودي، وكبار المطربين كالموسيقار الشريعي ومحمد سعد عبدالله ومحمد عبده والمرشدي وغيرهم.

وحين يدخل المحفل الحضرمي يحل فيه هذا السقّاف اللحجي إحلال متمكّن، تملّك الحضارمة فاحتسبوه منهم.  استطابوا طربه وتزوّدوا منه جملة وتفاريق ولم يجرءوا على ترديد مقالة أهل المشرق في العقد الفريد, بل عبود في الشحرهو ذكرهم بالحقيقة الغائبة. ليتك شاهدته وهو يطرب في الشحر:

يـا باقطيــان صلّـح لــي زهـاب الجنبية  / 

مـا دمت فنـان وصنــاعتك صنعة راقية

وكل من قال صنعة مَن ؟ أنا با قول صنعة باقطيان /

كل من يريد الزين لا يسأل على الأثمان

ببرنامج "القاهرة اليوم" غنى عبود في حضرة الشيخ الدكتور محمد بن عبود العمودي والموسيقار عمّار الشريعي، فأطرب الشيخ الشاعر ، وانتزع إعجاب الموسيقار الساحر، حدّ أن سلّمه الشريعي عوده ليعزف بدلاً عنه للمطربة آمال ماهر أغنية لأم كلثوم. عزف عبود فسرت في الحاضرين بهجة العود ، وفاح العود صوتاً ورائحة ، وتجمعت الحواس في حلولية عذبة فرح فيها العود من طرب عبود. ثم رَدَّ (بن زين) بالدان من كلمات عمّه الشاعر البديع العمودي فأمتع وأشبع، وحُقَّ فيه قول الشيخ المُلهَم :

        كل شي فيك زين، وانت من الزين أحلى / يخضع الزين لك يا سِيْـد كـل المزايـين

        خـذ عيـوني ولا حد شي على الـزين يغلا / أنت أغلى من الغـالي وسيـد المحبـين

أما الدان اللحجي فيؤديه بإطراب وسلطنة ؛ رضوان محلتيومن أبلغ من الخواجة لإيصال شكيّة (المحلتي) لأهل الشأن:

  سكنت قلبي حبيبي دونما استئذان / واصبح فؤادي مكان/ لنــار تشعـل ، لبركان

  شتّان بين المحبة والجفـــا شتان / بين السموّ والهـوان / يا ذي تقولــون سيان

  الحب غذا للمشاعر يعْمِر الوجدان / يعطي المعاني كيان/ ويجعـل المرء إنسان

وحين يتناول هذا المطرب أغنية لغيره فإنها تخرج من حنجرته الحالية لا تقلّ روعة عن أداء صاحبها الأول.خال عبود  لقد سمعته يغني رائعة الأستاذ أحمد الجابري (على امسيري) فلقيت اللحن المرشدي  فرحاً في ثوب عرس جميل ، وعجبت كيف أضفى على اللحن تلك النكهة البدوية التي كانت غائبة. وخاصة في جملة: "يا مرحبا بش وبهلش".

في شجى صوته سر حلاوة المفردة ووضوحها. تسمع منه الأغنية ، وكنت قد سمعتها  قبله عشرات المرات، فتستغرب كيف لم تنتبه لجمال صورها ومعانيها قبلاً. وهو فوق ذلك يكثر من التبصر في المعنى فلا يؤدي الأغنية إلا بعد مراجعة وتمحيص مثال غنائه من نظم القمندان : "..كيه بس سكّن / يا مخبأ في الدبداب عدنان خواجةكف العناد" و " في الحسيني  مست (خِيرة) جماعة واصحاب" بالياء وليس (خبرة)، وغير ذلك كثير. ومن جديده أداء مقاطع غنائية تجاهلها من سبقوه مثل ختام قصيدة (ليه يازين ما شان) للشاعر عبدالله هادي سبيت وهي من الغنائيات التي أحسن سبيت ختامها:

          بين حلو السمر ياذا وحلو المقـايل / رد يا صاحب الدان

يتنقل عبود بين المقامات الموسيقية تنقل العالم الخبير ، ويخطو على حرف الوتر خطوّ الواثق ، فيأتي بما يبهر الحس ويسعد الوجدان. يسير على سلالم النغم بحس سليم ، ويتنقل من النهاوند إلى السيكا إلى الحسيني في روعة وإطراب ؛ وتعجب كيف يعاود الرسوّ على مقام البداية من دون نشاز ولا قلق ولا اضطراب! إنه يحصد بريشته حقول المجد فيزرع المفاخر في سوح الفرح نغماً خالصاً من (تُـبـن)، وادي المعرفة الأول.

المطرب عبود زين2ولعل أبرز ما يميز هذا المطرب اللحجي هو حسن خلقه، وتواضعه ومحبته للناس ، واحترامه لفنه، وتقديره لأهل الكار. ولقد سُئلَ المطرب الكبير وديع الصافي (أبو كلثوم) عن نسبة الأخلاق في الفنان فأجاب:"تسعون في المئة أخلاق والباقي فن".

أطلقوا هذا الحسّون ليغرد بالمحبة فهو رسولنا إلى كل الدنيا. لا تنتفوا ريشه الملون الجميل الذي يملأ العين والخاطر, ولا تكسروا ريشته البديعة النادرة , ولا تمنعوا صوته العذب الذي يملأ القلب والوجدان لتمتلئ سمانا محبة وموسيقى وسلام ■

  نشرت بجريدة (الثقافية) العدد (281) في 3 مارس2005م ، ثم في (الأيام) العدد (5155) السنة 26 في 26/27 يوليو 2007

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ  

أغنية تهامية بصوت عبود زين

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 

imageأغنية ( يا عالم بحالي ) كلمات: يحيى عمر اليافعي، اللحن: يافعي، غناء: عبّود زين

imageأغنية ( سألت العين ) كلمات ولحن: عبدالله هادي سبيت ، غناء: عبّود زين

              المقام: الراست ، الإيقاع: شرح لحجي ثقيل (سلطاني) 

كلمات ولحن: السيد حسين المحضار