عمد عمر بن أبي ربيعة (أبو جوان) إلى نشر شعره مغنى ، ففتن النساء أكثر ، فكان الغريض وابن سريج يغنيان شعره ويذيعانه بين الناس، فتسمعه النسوة فيزددن رغبة في ان يقول عمر فيهن مثل ما قال في الثريا والرباب وغيرهن من شريفات قريش الأرستقراطيات. وقد ألزم عمراً ذلك وضع الكثير من قصائده تلبية لطلب النساء بل وتلبية للمغنين .. وعمد القمندان إلى تعيين ثلاثة وزراء إعلام لمملكة غرامه هم: هادي سعد النوبي ومسعد بن أحمد حسين وفضل محمد اللحجي الذين بثوا شعره في كل مكان ، وأدوا ألحانه بروعة فكانت له السيادة على صرح الغناء اليمني وما تزال.
كانت العرب تقر لقريش في كل شيء إلا الشعر، فاقروا لها به حين جاء عمر (ابن اللحجية). كذلك صارت لحج منسية في كل شيء حتى جاء القمندان فاستعادة شهرتها القديمة في الشعر وذاع صيتها حين انشأ فيها مدرسة فنية لها طابعها المتميز. وهو واضع أسس الغناء اليمني الحديث. وهكذا قول لا يلغي رأينا في القول بتشبه القمندان بعمر في أمور كثيرة ، حتى في أن يقال فيه ما قيل في عمر من أنه فتى قريش الذي لا يبارى في الشعر والفن والثقافة.
وعلى أية حال فإن لحجاً أرض الخصب والنماء ، ومنبت الخضرة والريحان ، تكاد تنطق بفضلها الدائم المتواصل من زمن بعيد. فإذا كانت بلدة القمندان ولها نصيب كبير في صياغة مشاعره وجعله رقيقاً شديد التأثر ومطرباً يُشار إليه بالبنان، فإنّ أثرها بادٍ على محيا ابن أبي ربيعة فتى قريش وشاعرها على العهد الأموي. فعمر وإن لم يكن قد سقط رأسه في لحج فإنه قد أخذ كل ما تعطيه لحج من خير ومن أثر ومن صقل من أمه (مجد) اللحجية اليمنية ، ولا عتب عليه إن قال وهو بين ظهراني اخواله بلحج متنكراً :
هيهاتَ من (أَمَةِ الوهَّابِ) مَنـزلنَا / إذا حَللْنا بِسِيْفِ البحرِ من عدَنِ
واحتـــلَّ أهلُكِ (أَجْيَاداً) فليسَ لنا / إلاّ التذكُّـرُ أو حظ منَ الحَـزنِ
لا دارُكُمْ دارنا يا (وَهْبُ) إِذْ نَزَحَتْ / نواكِ عنــا ، ولا أوطانكـمْ وطني
فلـــو شَهِـدْنَ غَـدَاةَ البينِ عبرتنَا / لأنْ تغَــرَّدَ قمــريٌّ علـى فَنَنِ
لاسْتيقنتْ غيرَ ما ظنتْ بِصاحبِها / وأيقنتْ أن لَحْجَاً ليس من وطني
عمر ابن بلاد العشيقة ، إنما وطنه الحقيقي في ثيـاب الغــواني. و هو يتَّخِذُ حتى من الوطن طُعْمَاً لاصطياد الحسناوات ، ألم يقل في صاحبته (القَتُول) - (قصيدة 137 ، ص 289) :
مَا كانتِ الدَّارُ بالتلاعِ ولا الأجــ / ـــــرَع ، لولا (القتولُ) ، من وطنِي
وما بخلت لحجاً فجاءتنا بعمر آخر .. إنه القمندان. وإني لأكثر ميل بأن الأمير العبدلي ، وهو الأديب والمثقف والحافظ لجل أشعار العرب وسوالفهم ، قد أخذته الحمية فذهب يقلد عمر في أمور كثيرة ، ويحاكيه ويتشبه به ، ويسلك عن قصد ذات الطريق ، وينتهج مذهب عمر في وقف حياته على وصف النساء ومجالس الشراب ، ولم يزد إلا ما أملته عليه ظروف الحياة في عصره ، فكانت تلك الزيادة هي وجه الاختلاف الذي اختلف بها عن عمر. إنهما يلتقيان ويتشابهان تشابهاً شديداً ؛ وتشاء الصدف أن تجمعهما في سجعة واحدة: (أبو جوان ــ القمندان) لتدنيهما من رفيقهما في الأسطورة الأوربية (دُنجوان ــ Donjwan).
كلاهما أمير وُلد في يسر وتقلب في النعيم حد التخمة. وكلاهما ترك الإمارة والسياسة واتخذ لنفسه إمارة الشعر ، ووقف نفسه على المرأة وحبها ، وعلى الكأس ولذتها. ترك الأول الإمارة لأخيه (الحارث) ، وترك الثاني السلطة والسلطنة ولم يمارسها فعلياً ، وتربع على عرش إمارة شعر العامية حليفاً لثالوث المتعة: المرأة والخمرة والطرب.
كان والد عمر تاجراً كبيراً من تجار قريش الأشراف، وكان أكثر بني المغيرة مالاً فسمته قريش بـ (العِدل) لأنه كان يكسو الكعبة سنة وتكسوها كل قريش سنة ، أي أنه كان وحده عدلاً لهم جميعاً. ولما مات العدل ترك لعمر ثروة طائلة منها أرض مخصبة في الجنوب اليمني.. ثم رعاه أخوه الحارث بعد موت والدهما. وولد القمندان ولأبيه في سدّة حكم السلطنة العبدلية إثني عشرة عاماً ، وعاش في عزّ أبيه مثلها. وكان كلاهما ابن عز ورخاء ورخوة ، كما كان للتيتم أثره عليهما. فإذا قيل ان عمر رابع ثلاثة أفسدهم اليتم هم طر فة والأخطل وأبو نواس فلا بأس من أن أقول والقمندان خامسهم.
إبن أبي ربيعة قرشيّ سدّ عليه الأمويون وعلى أضرابه مطلع السياسة، وأغرقوهم بالأعطيات لئلا يتطاولوا على الخلافة. فكان عمر تمثيلاً صارخاً لتلك الفئة التي هجرت السياسة وتفرّغ أبناؤها لترف العيش ومخاطبة النساء وتتبعهنّ.. وكذلك كان القمندان فقد ذهب عنه والده وهو لما يزل غضاً في الثانية عشرة من عمره ؛ فوجد نفسه في جوّ مليء بالمخاصمات والأحقاد والضغائن، والمنافسة على السلطة بين إخوته وأبناء عمومته على أشدها ، ولم ينج من حقدهم يوماً ؛ فهرب إلى المرأة والخمرة والخضرة وسماع الزمن العربي نغماً ، وغلبت نزعة الفلاح فيه عجرفة الأمير..
أجزم أن القمندان قد قد قرأ أشعار عمر ودرس حياته بإمعان كبير ، حتى ليخيّل لنا أنه تقمص شخصية عمر لموافقتها لشخصيه في أمور عدّة ، ما خلا في جعل عمر من نفسه معشوقاً لا عاشقاً. فما أتى به القمندان نجد فيه من نَفْس عمر ومن نَفَسه ، بل لقد ذهب به ولعه أن يحاكي أبن أبي ربيعة في بعض من قصائده؛ وفي هاتين القصيدتين شاهد على ما نقول:
قـــــــــال عمر: هيهــات من أمة الوهاب منزلنا / إذا حللنــا بسِيـفِ البحـر مـن عــدن
وقال القمندان: إذا رأيت على شمسانَ من عدن / تاجاً من المُزن يمحو الجهل في اليمن
وقـــــال عمر: بـانتِ الشمــسُ وكانــت كلّمــا / ذُكِــرَت للقلــبُ عاودتُ الدَّدَن
وقال القمندان مقلداً: أمة المختار والهفي لقد / خيّـــم الجهــلُ عليهــا ودَفَـن
كلمّا جمّعــهُ أربـابُهـــا / زكـــــواةٍ أنفقـوها فــي ددن
بل حتى ألفاظه وتعابيره هي ذاتها الفاظ عمر:
قــــــال عمر: فلو شهِدنَ غذاة البين عبرتنا / لأنْ تَغَــــرَّدَ قمــريّ علـى فننِ
القمنــــــدان: يا دار آهلة منك الكـرام لقد / طبتي وغنّت لك الورقاء من فنن
وقال: سال حطّوب وادي تُبن / غرّدي يا قمارى الفنن
وقال عمر: إنّ من تهوى مع الفجر ظعَن / للهوى والقلب مِتباع الوطن
القمندان : عبثاً منه القرى قد أقفـرت / إن نصف النـاس عنها قــد ظعن
وقال عمر: يا (أبا الخطاب) قلبي طائرٌ / فأتَمــر أمــر رشيـــد مـؤتمَـن
القمندان : يا (أبا الفضل) ودم في عزّةٍ / حاكمــاً فـي لحج مـادام الـزمن
عمــــر : (التمس) للقلب وصلاً عندها / إنّ خير الوصل مـا ليس (يُمَن)
القمندان: (سِرْ) بنا في منهج الخير فقد / بــارك الرحمـن مسعاك و(مَن)
وإنا لا نظلمه إذا قلنا أنه قد سطا على شعر عمر ، ولكنه أقل حدّة من سطو غيره أمثال ربيعة الرقي الأسدي والعرجي وبشار إذ جعل الرقي نفسه معشوقاً لا عاشقاً ، وذهب يسلخ جل معاني ومفردات عمر ويفرغها في شعره بيتاً بيتاً ، وجملة جملة (1) ؛ في حين سطا القمندان على شعر عمر ولكن مع بعض التصرف. وأجمل ما في ذلك السطو ــ إن كانت للسطو محاسن ــ أن استطاع العبدلي ترجمة أشعار عمر إلى اللهجة اللحجية ، وزاد أن عبر عن مشاعره هو أيضاً ؛ وقدر أن يخرج تلك المعاني في لغة عمرية مبسطة ومطعمة بألفاظ عامية غنائية عذبة.
يلتقي الإثنان في خروجهما عن المألوف الشعري لغة. استخدم عمر لغة المرأة التي تفهمها ؛ فكانت وسيلته للوصول إلى عمق المرأة والفوز برضاها ، تضاف إلى حيله الثلاث التي استنتجها الأستاذ زكي مبارك (2). إنه يتقن لغة النساء وتعابيرهن وامثالهن ، اسمعه يقول:
فقالت: وعضّت بالبنان ، فضحتني / وأنت امرؤ ميسورُ أمرُك أعسرُ
ويدعو مثل العجائز بأن يفصف الله أعمار الرسّح :
عجّل الله قطّهنّ وأبقى / كلّ خودٍ خريدةٍ قبّاء
واسمعهما وهما يؤكدان بتفكير النساء أن يأتي الأول محبوبته عاى بغلة لا على بعير:
فإنْ جئتَ فأتِ على بغلةٍ / فليس يوافي الخفاءُ البعيرُ
وليس على مهر مخافة أن يصهل فيفضحه:
وليأت إن جاء على بغلة / إني أخاف المهر أن يصهلا
أما الثاني فليأخذها معه خلسة بعيداً عن العيون ، هكذا:
خفا يسري معي ليليه بالسكته مغطى مجمّش / ولا قد لحلح الصبح غبّش
ذاك عمر يحب مثلهم عدد الرمل والتراب والنجوم والحصى وأوراق الشجر:
ثم قالوا تحبها قلتُ بهراً / عدد الرمل والحصى والتراب
وهذا القمندان يتحدث بلغة نساء لحج الرطبة:
نوحي يا حمامة بدري في الصباح / ونا لا سمعتش با ردّ النياح
ياما يا حمامة فينـا من جراح / نوحي لش ونا مثلش با قول آح
وسهل عليك أن تصطدم بكثير من تعابير النساء وأنت تمر بديوان القمندان مثال: “ سعبب سيل السعبوب” ، “دادح ودح”، “عر تدلى” ، “باقول بك قب”، “مجمش” ، “أوبه”، “ما يكهل”.. و ..
لا انته تبأ الزين يسلا لك ، كن فارق الناس وانذق / وارض معــه دوب واحنق
حيي خايف من الناس خلّي ، ما يكهل الناس يترش / حذِر لا شافهم طار عرّش
عمد (ابن اللحجية) إلى نشر شعره مغنى ، ففتن النساء أكثر ، فكان الغريض وابن سريج يغنيان شعره ويذيعانه بين الناس ، فتسمعه النسوة فيزددن رغبة في ان يقول عمر فيهن مثل ما قال في الثريا والرباب وغيرهن من شريفات قريش الأرستقراطيات. وقد ألزم عمراً ذلك وضع الكثير من قصائده تلبية لطلب النساء بل وتلبية للمغنين الذين أعجبهم التغني بشعر عمر لغنائيته ولما له من تأثير وسحر على نساء العرب. وعمد القمندان إلى تعيين ثلاثة وزراء إعلام لمملكة غرامه هم: هادي سعيد النوبي ومسعد بن أحمد حسين وفضل محمد اللحجي الذين بثوا شعره في كل مكان ، وأدوا ألحانه بروعة فكانت له السيادة على صرح الغناء اليمني وما تزال.
والشاعران متفقان في أن شعرهما مصدر لكثير من الأسماء الجغرافية. وكأني بالقمندان ، وهو الشاعر والمؤرخ ، قد فطن إلى أهمية ذكر الأماكن وأسماء المواقع في شعره متأثراً بعمر ، فذهب يحاكي المخزومي في هذا ايضاً. يؤيد قولنا هذا ذلك السيل من الأسماء للمواضع والأماكن التي وردت في شعر كليهما. بلغت مئتي موضع في شعر عمر كما أحصاها الأستاذ جبرائيل جبور(3) ويكفي ان تحصي إلى الصفحة رقم (50) بديوان القمندان لتجده قد ذكر ما يقارب (48) قرية وحارة وموقع ، وعدد (72) مدينة و(122) اسم علم. وقد تكرر فيها اسم لحج (17) مرة ، و (تبن) (12) مرة ، والحوطة ثلاث مرات ، كما ذكر نفسه مرات ثلاث.
قال عمر يذكر أكثر من موضع في البيت الواحد:
لَعمرك ما جاورتُ غمدان طائعاً / وقصرَ شعوبٍ أن أكون به صبّا
وقال القمندان في (البدرية):
أدريتم كيف ذا الظبي سبا / ذئـب أهــــل البـــان
وأتى حيط الحبيلي واختبى / غصن في الأغصان
فتجلى بعـــدها ظبي الخبــا / وأتــــــى سفيــــان
فتن السـادة فيهـــا أجمعين / دخلــــوا فـي الدين
وإذا كان العبدلي قد جعل من نفسه عاشقاً ذليلاً ، على عكس عمر فذلك لأنه لم تكن له قوة وفتوة عمر وحسن منظره وفتنته للنساء، ولأن المرأة على عهده لم تمكنها ظروف الحياة من الإشتراك في المناظرات الأدبية كأختها في العهد الأموي، ثم اتفاق مسكن عمر بالحجا ، ومع ذلك فإن تحرقهما يكاد لا يختلف وخاصة حين لا يتحقق لهما ما يبغياه من إمتاع للنفس برؤية المحبوب أوتحقيق الوصال. قال عمر متحسراً عندما رأى جميلة وكلمها فلم تجبه:
الريح تسحبُ أذيالاً وتنشرها / يا ليتني كنت مما تسحب الريح
وقال الثاني كثيراُ من هذا القبيل وتحرقه أشد وحسرته اعظم؛ فهو لم يفز بلقاء محبوبه سوى مرة واحدة (أنظر قصيدته واعلى الحنا) اما ما خلاها من قصائد فهم وتبريح وشجن وبكاء ومنى لا تتحقق ، أو ملازمة للكأس والندمان، او التعويض بالهروب إلى الزرع والخضرة..
وأمام المحبوب يلتقيان تلاقياً قريباً. فإن تمنى عمر أن يكون شيئاً “ممن” تسحبه الريح وتنشره ، فقد نسي القمندان أنه أمير وتنازل عن السمو العبدلي ، ولم يعد يحسب للتقاليد السلطانية إلا بقدر ما تمكنه من الوصال ورؤية المحبوب البعيد. وهكذا تجده ذليلاً خاضعاً: “ذنوب سيدي ذنوب يا ورد نيسان” ، “ با شلّك على عاتقي” و”حقيق عبدك في الهوى عبدك حقيق”، و ..
وانا اكتبوني عبدكم ولا رفيق / لا شي تقولوا دفتر الكتبة يضيق
وتربطهما معاً فكرة الإنفراد بالنعيم والتمتع بملذات الحياة الدنيا ، فرجل مثل ابن أبي ربيعة ما كان يهمه من الدنيا سوى إمتاع قلبه بانواع الجمال وإشباع نهمه الحسي، وهو قبالة ذلك لا يرعوي في التنكر لكل شيء .. حتى الوطن:
فلـــو شَهِـدْنَ غَـدَاةَ البينِ عَبْرَتَنَا / لأنْ تغَــرَّدَ قُمْـــريٌّ علـى فَنَنِ
لاسْتَيْقَنَتْ غيرَ ما ظَنَّتْ بِصاحبِهَا / وأيْقَنَتْ أنَّ لَحْجَاً ليسَ مِنْ وطني
ونحن لا نعتب عليه قوله هذا بقدر ما يهمنا أن نوضح إلتقاء القمندان معه في التضحية بكل شيء في مقابل الفوز برضى المعشوق ووصاله. ثم أن عمراً لم يكن قد نشأ في اليمن ليحس بكفاية من الحنين لها فأرضه الحجاز وبها ترعرع وفيها أسلم الروح.
كذلك ما كان يهم القمندان اكثر إلا منادمة الأصحاب على خرير السواقي وظلال الأشجار، ورنين الأقداح والأوتار، أو الشكوى والعتاب واستملاح الوجع الرومانسي الجميل ؛ والهروب إلى الطبيعة ، إلى البساتين والخروج من ذلك الهم بالفرح بمشاهدة المطر والسيل والسقو.. ومع ذلك فإنه حين يحكم بعاد المحبوب محاصرته وينكره الفراش :” ما يبأ النوم والجودري” لا يتنكر للوطن ، بل لا يهتم إن انشقت الأرض وابتلعت الكل ، ويبقى وحده مترنحاً مع دمع العنب:
(هيثم عوض) قال ليت الأرض في وَدْرَه / با سلّي القلـب ما با بات شي مغبون
(هيثم عوض) قــال بعطي خــاطري جَبره / مادام في القلب نبرة بذلح المخزون
أوجه الإختلاف
وإذا اختلف القمندان عن عمر فإنما في جوانب ثانوية يمكن حصرها في عدم تخصيص القمندان شعره في النساء فقط ولكنه امتدح اخيه وأعمامه وسواهم ، وفي أنه لم يجعل من نفسه معشوقاً والمرأة هي العاشقة التي تشكو صده وعناده وترجو لقاءه ، ولم يمتدح نفسه كفاتن للنساء. كذلك خلا شعر القمندان من الأسلوب القصصي الذي يتحدث فيه عمر عما تعرض له من حوادث مع النساء.
وهما يختلفان في عيشهما للحب فإبن أبي ربيعة “موكل بالجمال يتّبعه” كما قال، وهو غير ثابت في حبه وغير جاد وكاذب فقد قال في أسماء وهند والنوار وعثمة والرباب والثريا وعبدة وغيرهن ، بينما ثبت القمندان على حب (سلمى) ولم يقل في غيرها ، وسلمى أرستقراطية من البيت العبدلي كمحبوبات عمر الأرستقراطيات.
وأمام الطبيعة ومفاتنها يقف الإثنان على طرفي نقيض. فإن وصف عمر الطبيعة في سفره او استقراره فإنما هي عنده بمثابة عائق بينه وبين الحبيب أو طريقاً يؤدي إليه ؛ والبستان بكل ما يحويه لا يهمه إلا أنه الموضع الذي تمنى أن يوافي او توافيه فيه صاحباته كحبيبي الأرضي، والظواهر الطبيعية لا تهمه إلا بمقدار ما يمكنه من ان يتكئ عليها للتغزل بصاحبته لإظهار حبه أو للفخر أو التغزل بذاته كما أصاب الدكتور جبور. ولا عجب فعمر تاجر وليس فلاحاً ابن بيئة زراعية كالقمندان الذي تستهويه الطبيعة وتسيطر على مشاعره. بل قد تعني الطبيعة عند القمندان أحياناً المرأة. والطبيعة والمرأة كلاهما الإطار الذي يتوج جل أغاني العبدلي وأشعاره. وعلى عكس عمر فإن المرأة ـ حين تمعن في الصد ـ تكون هي الوسيلة للإستمتاع بمفاتن الطبيعة وما فيها من خضرة ورياحين ، وثمار وجناين ، وأمطار وسيول ، وليس هناك فرحة تعادل فرحته بمجيء السيل وارتواء الأرض:
شوف العشي سوّد وغبّر / ركّب علـى الوادي وزقّر
هاتوا عبـاتي خاف با امطر ـــ يا فرحتي
شن المطـر والسيل دفّـر / والطين ساقي خاف يوفَر
عـاد البقـر مــن شَق (خنفر) ــــ با جيبها
هذا زبيدي بلّح وصفّر / أصبح مناصف رطب مفرفر
وذا عنب من (زحله) و(صوفر) ــ خريف
إني أحس بفرحة لا تقل عن فرحة القمندان فكلمة (خريف) في هذه الخرجة تسعدني وأحس بروح القمندان الفرحة المرحة تنط من بين كل حرف منه. وهي تمثل فرحة الشاعر وقد صار بائعاً للتمر ينادي على الزبائن: “ خـرييييـف” ■
ـــــــــــــــــــــــ
* نشرت بمجلة (الحكمة) العدد (154) السنة 18 في نوفمبر 1988
(1) انظر (الأغاني) الجزء الأول، دار الثقافة ـ لبنان، ص 157 . ومجلة (الطليعة الأدبية)، العدد الأول، السنة السادسة 1980
(2) زكي مبارك:(حب ابن ابي ربيعة وشعره). المطبعة المصرية 1971 ، الطبعة الرابعة
(3) د. جبرائيل جبور: (عمر : حبه وعصره وشعره). ثلاثة اجزاء. .دار العلم للملايين ـ بيروت ـ لبنان 1981 الطبعة الثالثة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أغنية ( يا ورد يا كاذي ) كلمات ولحن الأمير أحمد فضل القمندان ، غناء: عبود زين
أغنية ( ألا يا اهل الحسيني ) كلمات ولحن الأمير أحمد فضل القمندان ، غناء: فيصل علوي