شريط

3‏/10‏/2010

عبدالرحمن ابراهيم .. الكتابة بلون الحُسْن

قراءة في ديوان " مزاج الهدهد "

جريدة (الثقافية) العدد (240) في 29/4/2004عبدالرحمن ابراهيم

قال الراوي: كان أهل الجاهلية يعتقدون أن الناس يُحشرون ركباناً على البلايا ، ومشاة إذا لم تعكس مطاياهم عند  قبورهم ؛ فهل خشي أهل الشعر الحر أن يحشروا مترجلين حتى عكسوا رقبة القصييدة وعقروا قوائمها ؟!

عبدالرحمن ابراهيم شاعر حديث ، وشاعر الحديث لم يعد اليوم شاباً حدِثاً ، ولكنه ما يزال يملك حلماً ، يصحّ فيه قول الشاعر:

          وما الحداثة من حلمٍ بمانعةٍ  /  قد يوجد الحلم في الشبان والشيب

في ديوانه الأخير "مزاج الهدهد" شعر وحكي ، وفيه "فرّدانية" وجدانية ، وهمس وصراخ معاً. وفي الديوان تفتيت لإطار الخليل ، وتجريب للبتر والفراغات ومزاوجة للقصيدتين العمودية وقصيدة التفعيلة ، وفيه تجريب حتى للقصيدة البصرية. المقابلة بالثقافية

في الديوان الحالة غير منظمة والفكرة تهرب من الفكرة وتناقض الحدس أحياناً في القصيدة الواحدة مما يكشف حال الشاعر المبعثرة ونفسيته المضطربة. تدخل ديوان عبدالرحمن من بابه فتجد نفسك مترنحاً في مناف ، وتمرُّ بشجن القصيدة أو يمرّ بك الساخطون على نهديها فإذا أنت مهتدٍ بالضلال حيث ينكرك البحر أو تنكره ؛ وتصل محراب الديوان فتلقى الطفولة قطة شمطاء ، ويمنحك الهدهد بعضاً من هدىً وهديل.

في حضور الهدهد يتذكر الشاعر خرافة رغبته ، يتذكر زوجه التي تغرس خنجر الأمل في صحوته الخرافية وتعينه على هبوط نسبة السكر في دمه المقهور؛ ويبلغ الضلال مرهقاً فيعلن:

         يمجدني ــ حين يمش السراب 

         إلى خطوة من ضلالي ــ

         ابتسام الهدى والهدى غيض

         حلم يراه عمائي

         أنشروني سجوداً على قبلة للهدى

في " نبيذ المنافي" ترجيع لمهيار الأدونيسي ، وإذا لم تكن هناك من صلة ما بين الدمشقي والديلمي عند الأستاذ ، فإن ما بين مهيار وابراهيم صلة دم وماء ونار صاخبة ذاب فيها مهيار في صخور اعتراف الشاعر وقاسَمَهُ نبيذ المنافي: غلاف الأعمال الكاملة ع ابراهيم

         لم يعد بعضي غير نزف

         في صحارى الذبول

         لم يعد بعض بعضي غير جمر

         في رجاء شتائي

         ليس لي غير التراجيع تسيّج

         ذاكرتي الغافلة.

يهبع ابراهيم وراء(إسبر) مقلداً " اغاني مهيار الدمشقي" ، وإذا كان أدونيس في هذا الديوان قد تجاوز المقاييس المعروفة فأرانا بطل مجموعته جباراً يغسل أقدامه في البحر ويطاول حدود اللانهاية ، وثائراً يهدم ويبني ، فإنا نرى ابراهيم في "مزاج الهدهد" صاحب رسالة أيضاً ــ على ما بين لغة الشاعرين من مراح. يحاول ابراهيم أن يتجاوز المقاييس هو الآخر ويجرّب ويمارس الأستاذية كما قال استاذه فيه ، ولكن بمزاج هدهدي كثيراً ما يجرح القصيدة. نجد الشاعر وجعاً مشيّداً في منافي النبيذ. نجد ابراهيم البطل المقهور/المضروب/المسروق بيته و"قاتة حلمه"/المذبوح حسداً على مقعد الأكاديمية/ المُقـاد عنوةً إلى ملح الجفاف ..

         واحداً صرتُ

         أسقط في بئر ذعري

         حولي الموت يصلّي

         المراثي خبرتي والأنين 

          ضيائي

نزلوا عليه من علٍ، ووقفوا ندّاً واحداً كوقفة سيل الوادي في طريق العابرين فاحتمى بالمزمور الأدونيسي وفيه الكثير من المفاجآت:

         وقعُ قلبي مزامير تبكي 

         هل أسير إلى حقل رؤاي؟

         هل أهاجر كي تستبقني

          لعنة

         مندحرة؟

إن الشعر الغنيّ هو ذاك الذي يتضمن نوعاً من المفاجأة ، وكما في مهيار تمثيل لشيءٍ من قلق العصر والمصير والحرية ، نجد في مهيارنا العدني تصعيداً للألم إلى داخل قلب الشاعر والقارئ فيغتمّ كلاهما، وكأنما هو عقاب للنفس. هوذا ابراهيم يصل إلى تخوم وجع نكسة نفسية حادة فنلمس جلال الوجدان الشعري حيث الكلمة تولد جديدة، وحيث الصور تتناسل بكسوة أنيقة ، وحيث البساطة تغدو دثاراً وإطاراً بديعاً ، يزيده روعة هذا التوزيع العذب للأبيات الذي يعبر عن صراخ عال وتقطع للنفس حال النشيج:

         نصف مهيار دائي

         ونصف

         دوائي

         وصداقاتي الذائبة

         نصف مهيار رفيقي

         حزب يومي ،

         غدي

         آه كم دثرتني المنافي!!

         آه كم مزقتني خطوط

         ندائي!!

شأن غيره من شعراء جيله ، يلعب إبراهيم بالتفعيلة وكثيراً ما يفلح في توظيف الموسيقى لخدمة المعنى ، أو إخضاع رقبة القافية لحمل معانيه اللاهبة.. وشاعرنا نزّاع إلى اشتقاق مفردات جديدة: ينحت من الأسماء أفعالاً ولا يعتـدى على الجوامد، مثال:" يستنبذ الإعصار قطر شفاعتي"، " تتعنكب الموجات فوق هواجسي"، " هبطت هام المتماردين إلى قاع الوهم"، " تعتاش به سرائرهم" ، "صرير السجائر" ن ومع ما في هذه الصور من غرابة رمزية لذيذة إلا أن الإعصار لا يثستنبذ ولا الموجات تتعنكب ، ودعيُّ التمرد لا يطللق عليه متمارداً ففي ذلك نبوّ عن الذوق وتسطيح للمعنى ، وأما تعتاش فلا تعني غير العشي وهو ضعف البصر والصحيح تعيش وتتعيش، وأما الصرير فلا تصلح إلا للحشرات وفي السرير.

ولما كانت التجربة الشعرية تكون شكلها بذاتها ، ومن طبيعتها يتولد التعبير ن فإنا نلتقي في " منافـي النبيـذ " شاعراً " مُستنبذاً " مهزوماً ضالاً، لا يحسن توقيع خطواته ، تنازعته الفيافي والمنافي ، وتداولته الأوزان حتى لا تجده على بحر:

         في منافٍ ومنافي

         شيدوا وجعي

         ليس لي غير صمتي

         ليس لي غير لمع الظلام

         شاحبات دموع شمعي

         كلما قطرة من شعاع داهمتني

         تموتُ بوارق أبهى

إن الشاعر رسام يراعي حسن الجوار بين ألفاظه وانسجامها فهي الوانه ، ويحسن توقيع موسيقاه فهي الظل والنور في لوحته ، فلماذا لم يُجْرِها على " فاعلن فاعلاتن"؟ نعم لقد بلغ الشاعر في هذه القصيدة حدود التعب القصوى. يشي النص كم صاحبي ثقيلاً لساناً وجرْساً وفكرة ، خلت روحه من التطريب، وما أجمل الحزن الطروب؛ وعاف وجدانه التوقيع على الزمن ، إذ هو لا يشعر به.

ويجرب ابراهيم البتر لإبراز الحيرة والتردد النفسي والصراع الداخلي كما في قوله:

         هل تشرب اللحظات

         طازجة

         أم اللحظات تشـ...؟

ولا احسب تكملتها "تشرب نفسها".. ويستعمل الصمت لا لإتمام التفعيلة بل لكي تمنحه التقاط فرصة للتأوه والتحرر من بعض الضغط على أعصابه ، وتهبه فرصة للتذكر ، ولإذابة التفاصيل:

         دخلوا في عناق داكن

         دخلوا في شجار باسق

         دخلوا في انبهار عقيم

         دخلوا في .....

         دخلوا في ....

في القصيدة العمودية لا يكون المكتوم جزءاً من القصيدة ، وإذا أراد الشاعر أن يكثف معنى تجنب الحذف وصاغ تعبيره صياغة محكمة واجتنب الحشو ، أما في الشعر الحر فيستعين الشاعر بالفراغات والنقاط للتغلب على ذلك. إن الفراغات والنقاط تحول القصيدة من مسموعة إلى مرئية وهذا تكليف للشعر غير محمود ، وإنما تكون جميلة إذا ما جاءت تفسيراً لقول الضفدع في فمي ماء.

ومن تجاريب ابراهيم الموفقة المزاوجة بين الحر والعمودي حيث يتم الانتقال من الصحوة الهازلة إلى اللحظة الراهنة عبر مخافة بديعة فيها للصورة طعم لذيذ وللطباق لون حسن ، وكان لابد من فراغ ونقاط كرابطة منطقية بين صورة الذكرى والحاضر المر:

         تتدحرج غفوة أنثى

         تسحبني؟

         إلى أين؟

         إلى صحوةٍ هازلة

         دواءٌ أصبح القهرُ / فلا نهـدٌ  ولا سُكْــرُ

         يباباً صارتِ الدنيا / ومنفىً أصبح البحرُ

في قصيدة " القطة" أراد الشاعر أن يكون (Independent) قلباً ويدا ، ولكن القلب شرقيّ والنفَس ؛ تتدفق موسيقى القصيدة كسيل الوادي الذي لا يقطعه قاطع ، والتدفق الموسيقي من سمات الشعر الحر ، ولكن الشاعر يمزقها ليضيف إلى قبح الرمز قبحاً آخر:

         القطة الشمطاء زافرة

         ومواؤها في لجة العصر احترق

         القطة الشمطاء يائسة

         صارت شعوباً من ورق

         وا غربتاه!!

         يا هدهدي

         يا للحمق!!

يحمل هذا النداء نفساً عامياً عميق الشجو ويذكرني بعبدالله سلام ناجي وراعيته.

عندما أنثر قصيدة جاري أجد نثراً أشهى من الشعر ، وما وجدته شاعراً إلا في عموده الذي يستحي به أمام القراء حيث يضع قصيدة " هدى الهدى " في آخر الديوان لتكون طين الديوان لا مسكه ــ بحسب ترجمة شعوره. في عمود عبدالرحمن ابراهيم شعر خالص ، أحلى وأغلى من عقد خالصة الضائع ، وفي " حُرّه " كثير نظم وصناعة ، ومردّ ذلك إلى انه قد عاش التجربة في هدى صادقة عميقة فانسكب انسكاباً:

قد هـداني الهُدى للجمال

عن ضلالي فانزال عني الحجابُ

الهُدى وحدها هديـلٌ جميـلٌ

وحيـاتي بــلا هديــل خـرابُ

والأماني، أنت الأماني العذارى

والأغاني، أنت الأغاني العِذابُ

أنظر كيف يتنكر الشاعر لقصيدة العمود ، ويستحي أن يرصّها صدراً فعجزاً متقابلين ، بل هو إمعاناً في الهروب يجعل لها هيئة عصرية. لِمَ المكابرة؟ إنّ هذه القصيدة هي وحدها عنوان ديوان عبدالرحمن ابراهيم ، وفيها وحدها بلغ حدود الشعر؛ والتجربة والمعاناة والحرمان تنتج شعراً رائعاً ، فلا حرم الله شاعرنا من الحرمان.

الديوان وجه البيت وعنوان سكانه ، لذلك وجدتنا نفرشه بالجوادر والوسائد من العطب المندوف ، ونبالغ في تزيينه وتبخيره بالبخور اللحجي الذي يطرد الجان ويجلب الدان ، كل ذلك لنفرح ضيفنا فيحس بمقدار فرحتنا بزيارته ، ونحن مزارعون يا صاحبي وخير بضاعتنا على وجه السحّارة.

الشعر عود أوتاره ألفاظه ، يدوزنها الشاعر لتخرج اللحن الذي يود ، والشاعر عازف ملهَم ، وفتّاح آفاق جدد. يلقي الشاعر بهاجسه في وديان المدى فتفيض نوراً ونغماً خالداً.

الشعر جميل في أي شكل جاء ، وعلى أي مقام جرى. أجرى العربي الأول بيت شعره على هيئة مربعته، وإذا جاوزه فإلى (الدكة) ، وما غادر (المردم)، ثم فتحت الهجرة الأندلسية الأولى مجاري هواء جديدة أنعشت الروح حين حلّ العربي دار الموشح ذي الخرجات والشرفات المتنوعة المحاطة بالأغصان والعناقيد والكروم كصنعاه. ثمّ فتح المهجريون آفاقاً رحبة وجددوا وتجددوا ، وصارت لنا في الشعر مدارس واتجاهات.

ليس من شروط الشعر أن يأتي في حلّة النابغة الجعدي إذا استلب ، أو الأمير القيسي إذا شرب ، ولا في هيئة الفرزدق متى غضب. ولا أن يطل علينا في أهاب شكسبير ولا إليوت ولا بودلير ؛ لا اعتبار للشكل إلا بمقدار خدمته للمعنى. لكل عصر لبوسه وبنيانه ، وليس اكره من أن يستجرّ الشاعر معاني القدماء وصورهم.

الشاعر محمد حسين هيثم جميل يبقى الشعر ما حوى النغمة الحالمة ، والمفردة النابضة ، والصورة الناطقة ؛ وعظيم يظل الشاعر ما قيّد الفكرة الشاردة ، وأذاب روحه في أقانيم الطبيعة واتحد ، ورأينا كلماته ــ كما عبرت الشاعرة الفرنسية مدام دي نواي ــ " تسير متشابكة متساندة هاتفة كأنها ذوات أفواه متفجرة كالينبوع المتدفق". بلى ، وللمبتدع ينبوع يستقي منه ، وله بصر ينفذ إلى القعر ، وما عشيت عين الهوى من عبدالرحمن ابراهيم بالنظر، فالماء جارٍ على ظهر الحبيل ، وإذا استعار بصر "الهدهد" فذلك لأنهم يزعمون أن الهدهد يرى مجاري الماء تحت أديم الأرض وهو طائر في الهواء. 

والخلاصة أن في أبي ‘إلزا" حسناً في شعوره وفي شعره ، وقديماً قال بشار أن لون الحُسن أحمر .. سلمت يد شوقي ، وعاش ذوق هيثم ■

 

ـــ  نشرت في جريدة (الثقافية) العدد (240) في 29/4/2004

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ