لزين راجل رخامة صوت الزاجل ، في صوته شجو وتطريب ، وفي صوت زين وضوح مقبول ، ومدّ مفرح ، وفيه صفاء مع خنّة مستحبة كانت من متطلبات الغناء بمقاييس زمان. إن المادة الخام المصنوع منها صوت زين غالية وغير متوفرة. يذكرني صوت الراجل بطرب لحج الأصلي الأصيل. له صبابة حالية لم أجد مثلها إلا عند المسلمي ـ رحمة الله عليه.
وزين عازف عود ماهر ، لا تشبع من عزفه البديع ؛ في عزف زين كل الحلا والزين: نغم صافي ضافي ، وريشة لا تخطيء الوتر، وفي تصبيعه إتقان ينمّ عن حذق ومهارة ، وفيه شجو مُرنٍّ لا يُمَل ، تعيده على مسمعك مرات ومرات فلا تشبع منه. زين في الأصل عازف عود ويمكن تصنيفه ضمن الطبقة الثانية مع السرحاني والشيخ يحيى العقربي وفريد حمدون. مارس الغناء من مدة قصيرة فأبدع.
إذا طلبت الطرب اللحجي المؤصّل وجدته جارياً متدفقاً من حناجر وأصابع فضل محمد وفيصل علوي والدباشي وأقرانهم. وهذا زين راجل (دباشي) عصرنا في عفوية أدائه، وهو (فضل) أيامنا في رنّته وخنّته. أهداني الفنان الراجل أربعة كاسيتات من غنائه فاستمعت لها واستمتعت بكثير من الأغنيات.
يدرك هذا الوهطي الزين أن الدان لا يصلح مدخلاً لكل أغنية، وأنه لا يجوز التمويل بمطالع كل الأغاني؛ لذلك كان الراجل موفقاً في اختيار الكسرات لـ"داناته". ومن أحلى الأغاني التي يؤديها زين هي (ياشاكي غرامك):
يا شاكي غرامك ، ياباكي هواك / مَن يسمع كلامك ، مَن يقبل شكاك
يا ما قد بكى / قلبي واشتكى
من نار المحبة ذي تضرم ضريم / يا شــاكي غرامك قلبك لك غـريم
لطالما سمعت هذه الأغنية من مطربين كبار بينهم فيصل علوي ، لكني ما طعمتها إلا من حنجرة هذا المطرب. أي بالله، لكأنك تتذوق من حنجرة هذا الزين المشبك الوهطي ذي العلامة التجارية المميزة: "صنع في بيت الهيش". إنك في صحراء الوهط ، فإذا سرت القريحة سارت محلتية ، وإذا امتطى الطرب صهوة الفن كان (حمدونياً) ، وهو (المشهوريُّ) إذا ترجّل.
تصاحب الراجل إيقاعات تنمّ عن حذق ضاربوها وإبداعهم ، وصاحبنا لا يغمط الكورس حقه ، فهو يدري أن للكورس معناه وغايته ، لكنه لا يهتم بانتقاء أصوات الكورس. ومن مآخذنا عليه: عدم التزامه بغناء الأبيات مرتبة، وقراءته الخاطئة للنصوص المغناة مثل: "دم يا ورش غاني" والصحيح (هاني)؛ وإقحامه أسماء أصحابه في الأغنية إرضاء أو تملّقاً كالصراخ :"وازجر" وهو أمر غير مُستحب حتى في المخدرة. لكنه في بعض خطأه جميل كغنائه : " مِن يِسمع كلامك، مِن يِقبل شكاك" بكسر ميم (مَن) وياء المضارع ، ونحن نقبلها منه لأنها طريقة أهلنا المزارعين في الكلام. وقد أبدع زين في أداء أغانٍ بعينها مثال: (يا شقي في يوم عيدك) ، (اسألك بالحب يافاتن جميل) لأحمد عباد الحسيني، و(أنا حبك ياسلام) للقمندلن، (متى ياكرام الحي) ، (منقب صدفة لاقيته) و(ليه يازين ماشان) لعبده عبدالكريم. وفي (حبيتك ونا ما اعرفك) لابن هادي سبيت أبدع الراجل أيما إبداع، وأشهد أني ما طعمت هذه الأغنية ، على كثرة من غنوها، سوى من صوت الراجل. أما لحنها فعجيب ، كان صوته في أدائها متدفقاً كماء (مجاهد)، حالياً كحلوى الوهط :
كأني إلا اعرفك من زمان / ما أحـلاك ما ألطفك
حبيتك وانا ما اعرفك
مَنْ حَبك حظي واشتهر/ والرحمـن ذي شرّفك
حبيتك وانا ما اعرفك
إن هذا الطرب ينعش النفس منا ، ويجدد الذاكرة ؛ فيه تأريخنا ، ماضينا الجميل حيث المرح يقفز من سطور القصيد ، فيمدُّ الصدقُ يديه ليتلقاه متبسماً:
قالوا لي: كفـايه جنان / هـذا قط مــاشي يبان
ذا موصوف ذا بوفلان / يا مجنون أيش اكلفك؟
وأشد ما أعجبني من غناء الراجل (غزلان في الوادي) للقمندان. غناها فوقعت النقطة عن رأس الزين وسار حاسراً فقرأتها: (وراجل بلبل الروضة رخيم) :
غزلان في الوادي وزاجل بلبل الروضة رخيم / يا خـاطري لما مـتى عـادك مولّع به تهيم
نار الهوى من فرقته تكوي فؤادي جيم ميم / ومبسمه فيه الدواء يطفي اللهيب سكر وليم
إن الجمال كل الجمال يكمن في البساطة ، واللحجي بسيط وخفيف ، انظر إلى تلك الاستعارة الشعبية حين يكون الحبيب كالدواء الشعبي الناجع:سكر وليم. ولا يحيد مطربنا عن هذه البساطة حتى في معاملاته اليومية. لقد جمع (ابن مشهور) في أدائه نقاء والتماع رمال أكواد (عورره وبئر حيدرة والمكشاحية)، تلك الجالسة فرِحةً على حافتي عُبري (مجاهد) و(عابرين). نحن الذين نشأنا على طرب فضل محمد اللحجي والدباشي وفيصل علوي والقعطبي والمسلمي ومحمد سعد عبدالله نستطيب غناء الزين الراجل لأنه زاخر بالعفوية و"المحلية" والحلا والبساطة والجمال.
في اسم (راجل) ما يعبر عن بساطة الرجل المعتمد على ساقيه – وريشته ، وكما هو ماهر في النحت على عود الخشب ، هو ماهر في الضرب على عود الطرب. ولو شئنا كلمة مختصرة قلنا: إن طرب (بن حمودة) ملوكي ، لقد جمع في صوته وأدائه وعزفه طُرَفاً من محاسن الطرب اللحجي الأصيل ■