شريط

28‏/9‏/2010

هدى العطاس .. خَوريّون .. وخُواريون

قراءة في مجموعتها القصصية " لأنها "

مثلما الشعر علم القاصة هدى العطاسالعرب ، القصة فن غربي خالص لم يستطع العرب الإمساك بعناصره المتجددة  المتفلته . وإذا ما حاول نفر منهم السيطرة على لون من ألوانه المتعددة المنفلتة ألفى نفسه متأخراً قرناً وبعض القرن فرجع إلى أهله ببعض قرن مدحوراً مكسورا . من نهاية القرن الثامن عشر وحتى القرن العشرين تنقل الأديب الغـربي من novel إلى Novella إلـى Short Story إلى Sketch ولا يـزال أدباؤنا في خلاف واختلاف حول ماهية فن القصة ، ولازال فيهم من لا يدرك الفرق بين القصة والأقصوصة وبين القصيدة والاقصودة ، ومن لا يهضم عناصر هذا الفن المتجدد ، كما لا يزال فينا من لا يقر بحلال التحرر من قافية القصيدة . لقد ظل الأديب اليمني يكتب القصة من الثلاثينات ولمّا يدرك أسرارها بعد ، ولا استطاع اللحاق بركبها المتجدد ، ولم يظهر عندنا عمل قصصي ذو شأن حتى جاءت الشريفة . ظل أدباؤنا المختصون بالقصة كالدجاجة الظائر التي لم تلق من يغرز في منخرها ريشة كي تدرك حملها الكاذب .

ليس خطأ هدى العطاس تصنيفها لمجموعة سكتشاتها Sketches بقصص قصيرة، ذلك أن فن الـ Sketch غربي غريب كثـير الجدة . ليس هـو بالأقصـودة ولا ( المعصوبة ) ، وهو ليس بالقصة القصيرة بل فن حديث يشبهها . هو عمل نثري قصير ، ربما تضمن الحكي والوصف والحوار والتشخيص ، إلا أنه يفتقر للصراع Conflict الذي هو أساس كل قصة قصيرة . وهناك السكتشات الطويلة كالتي لايفان تورغينيف ، وهناك القصيرة كالتي لهمنجواي . ونظنها قد اختارت هذا اللون الفني الصعب لنشر رؤاها لأنها تمتلك الموهبة الحقّة ، ولأنها تمسك بأكثر عناصر الـسكتش ، ولأنها قد أدركت أن هذا اللون الفني إنما خلق ليماشي حياة العصر المستعجلة ، فهو القهرمان الذي يمون من لا وقت لهم ولا جلد . ثم أن هدى لا تخلق مواضيعها بل تأخذ قطعاً من الواقع المفكك وتعيد بناءها بناءً جديداً وتخرجه في أشكالٍ وألوانٍ وميزاتٍ "مضمومة" في رؤى عطاسية لا يخطئها الذوق السليم . أو قل هي ترصد وتصف أحداثاً يومية نراها ولا ندركها فترينا ما نراه كل يوم ولا ندركه . تعرضه مغلفاً بخيالٍ قويٍ مؤثر . هو ذات الخيال العطاس الذي نفذ إلى أعماقِ المطربةِ الفرنسية في ملتقى رامبو بعدن فصاحت: "فوغ مي دابل" .

في مجموعتها "القصصية" الأولى " لأنها " تعرض هدى العطاس مشاهد متنوعة لمواجع الأنثى ومعاناتها بلغة شاعرية نثرية ، فنرى صوراً حزينةً محزنةً مخزية لنا نحن الذكور. وقد أفلحت في جعل قارئها الخصم والحكم في آن. إنها تهين في الذكر/الرجل شخص الفحل الذي يتمنطق بخنجر اللحم الأرعن ، وتكشفه تحت مجهر الشعر فجيعة من العجز الجنسي والذهني ، يرى في اعتلاء الأنثى / الدابة " أبعد مـدى لناظريه " ، كمـا يحسـب أن في دمها المسفوح انتصاراً للقومية والكرامة المهدورة . تعرض هدى الرجال أجساداً محنطة وتماثيل عقول تعْمَهُ في غياهب العتيق الضال ، وأرواحاً ظلامية ترزح جذباً في آسار الكهفية والجرفية والكهنوت.

مدار المجموعة الكهف أو الجرف ومخلوقاته ، ويمتد زمانها من زمن كتابة التاريخ وحتى اللحظة الراهنة. وشخوص قصصها هم خوريون (أهل الأخوار جمع خور وهو الجرف في الجبل) ، وأبطالها أثوار خوّارون أهل قرون ، من الجرف جاءوا وإليه ينتهون. كالذكر، الأنثى هي الكهف وهي صاحبة الجرف "إنزياحات ناقصة لكهف" ، و" جناح لم يكتمل لقمر.. لجرف" . إذا حاول أناس/ث الاستلقاء على سطح الجرف بقصد النوم ليلاً أنبت لهم الهوا/ى حراشف لا تلبث أن تغدو أجنحة تغريهم بالطيران ؛ وصاروا لذلك صيداً سهلاً للقناصين الجرفيين المتمرغين في الرطوبة . نتنقل مع الشريفة من مشهد مخز إلى ثان موجع والى ثالث دام مقيت. جميع المشاهد مكبرة مقربة ملونة فنشهد أننا نشاهد الفاعل ، منكِّسين الرؤوس ، مدلدلين الهامات . نبدأ مع الشاعرة بتلك التي حال بينها وبينه حاجز فكري ومطر ودم ، ثم نمر بزهراء التي "لأن" حراشفها تفتحت ونمت جناحاً أُهويَ بها إلى الجرف ثانية ، ثم نرى في "وابل دم" جرأة هدى في الدق على جبين العيب الحلال بعين شعرية بديعة ، ونختم بتلك الوفية التي حزمت في حقيبة الوداع القبلة الطالقة .

* * *

كُتبت "القصص" بلغة شعرية بيانية بديعة ، والشعر عنصر هام في إنشاء القصة، فالقصة قطعة فنية ، ومعظم قصصي العالم شعراء ؛ لكن الشعر المنثور إذا طغى أفسد ، ولم تسلم هدانا من ذلك .

بجرأة الشاعر الحق ، وبعين المعرفة الصافي تدق هدى العطاس في "لأنها" على جبين العيب الحلال ، وتعرض ، في سكتشات فنية بديعة ، الذكر العربي فريسة للخرف العجاوزي ، حيث تفقد العلاقة الجنسية الحلال قداستها ، وتتحول معاني التعمير والوجود الجميلة إلى ثأر وخصومة وعداوة عند الذكر ، فحياة ورغبة وانتقام عند المرأة :" وخنجر الثأر متدل في ذاكرته ".." وبيت عدوه ـ كما قيل ـ أمامه " ـ وكله في الجرف !

تجسد هدى في "وابل دم" ليلة التأسيس لحياة تقوم على مقولة متوارثة استرضعها الذكر طفلاً من ذئبة بوشم الدم والموت : " (ونابوك) الرجل نزغرد له حين يقتل ونبكي عليه حين يموت على الفراش ". ولكم تعملقت هدى هنا إذ جمعت في هذه العبارة ما بين الجنسي والقبلي فأدركنا سر ما كنا نراه يومياً ولا ندركه .

إن العلاقات الإنسانية الشرعية التي لا تقوم على المحبة والرحمة ، وعلى غاية تعمير الوجود ، وتُؤسس على العداء والثار والدونية وطغيان سلطة القطب لا تنتج مجتمعاً سوياً ، ولا بشراً متعافين. على خزعبلات المتراكم المتهدم تنبني الأسرة ، وعلى قاعدة الثأر ومفهوم الفحولة والجرح للأنثى تنشأ العائلة. لا إنسانية لقطب الحياة الآخر فما هي إلا وعاء للولد.. وتبلغ المفارقة تمامها حيث يستحيل الذكر فحلاً عتلاً عجلاً ثوراً جملاُ وغير ذلك من التنويع الحيواني ، يقدر ، من خلال الأنثى ، إثبات الوجود للخروج من مأزق التحدي ، وللنجاة من ملاحقة الأرجوزة النابحة ومطاردات الصبيان ، ومن عقاب الإفراد الأجرب. وهكذا تفكير لا يفضي إلى فرح وتعمير واحتفال بالحياة ، بل إلى كبت وعقد وأمراض ، وخواء عاطفي ، وعدم استقرار ذهني ، واضطراب وفرويدية صارخة ، وإلى ليل عربي جرفي لا آخر له.

في "حاجز ومطر" ترسم هدى بطل قصتها الذكر جملاً أعمى (هيج) ، حلمه التمرّغ في صحارى المَوَات في عينيها أما (هي) فلا يظهر منها غير عينيها العطشاوتين المتجمدتين الناظرتين شوقاً إلى جمر النار . وفي العينين ضوء حالم غامض يسعى إلى التواصل مع الآخر دون جدوى . يتحسس هذا العلج ذو الهيئة البشّارية طريقه إلى حيث تفاحة الخطيئة المتربعة على الشفاه الحمر .. تلك هي هيئة الذكر وصورته أما صوته ففيه فحيح الثعبان الحاقد ـ وهنا ردّت هدى ـ عافاها ـ البضاعة /الوصمة إلى أهلها ، والمنطق يقضي بأن للحية ثعبان. ثم تتولد صورة ثالثة إذ يغدو الجمل الأعمى/الثعبان الحاقد ، بعد تعرضه للريح ، ثوراً بقرنين متدليين إلى أسفل ، وبرأس أكرت كعفريت .

أما هي فلا تبرز القاصة منها سوى عينيها الناطقتين بضوء بارد "خاب" مسعاه ؛ فليس هناك من يفهم الزرقة الرمادية. لا يظهر من تلك المتلفعة بالسواد إلا العينين.. عينا بومة ثاقبة فيهما دهاء ومكر وشؤم ليس لمقتولهما قَوَد .. وهنا تقع لحظة أخرى من تجليات هدى وإدراكها لأسرار العمل الفني ولعناصره ، حيث مجرد ظهور العينين يقلب كيان العفريت ويفضح عجزه وخواءه ـ لاحظ العفريت صورة رابعة وهي رد لتهمة أخرى سيطرت هي على ذلك العلج/العجل وفتنته فانبرى يطاردها بحثاً عن الاثم اللذيذ، وإتماماً للمعرفة الفاوستية ، ولكنه لم يفلح ؛ فقد شاءت هي أن تعبث بعقله وبروحه وذرته كالمطلقة .. وبينهما حاجزان : أشياء أو ثارات ، ومطر غزير كثيف .. إنه ذلك الدم الذي حسبه ذلك العفريت الأعمى سبباً في منع تقدم العرب نحو أوروبا وفي حرمانهم الأندلس ..

إن رسم البطل في حالاته وتحولاته الحيوانية الثلاث : هيئة جمل أعمى ، فثعبان غادر ، ثم ـ بعد تعرضه للريح ـ ثور بقرنين تأخذ تمامها في الصورة النهائية الرابعة حيث يستقر على هيئة عفريت جامعاً ما بين الحيوانية والبشرية ليذكرنا بياهو جوناثان سويفت في Gulver's Travels ، وهذا التلوين يخلق الأثر الفني ويثير فينا تأثرات عديدة ، ويشي بنجاح القاصة.

 

خـورية ثـورية

في "جناح لم يكتمل لقمر.. لجرف" ترسم هدى الأنثى جرفاً ، وتصور الرجل مخلوقاً كهفياً جرفياً مدقعاً في الرطوبة والحيوانية ، وهو لا يختلف في كينونته عن الأنثى / الحية ؛ فكلا الجنسين " مخلوقات " جرفية ، من الجرف أتت وفيه تعيش وفيه تغيب وكلاهما بجلد لا بجسد . في جلودهم تنفذ خيوط النور كإبر الشفاء فتسري فيهم الحياة .. ويتلوون ، والتلوي دليل على استعداد الجانب البشري فيهم للتاثر والتغير ..

وتمثل القاصة زهراء ، المحكوم عليها بالخورية ، قمراً منتفضاً . لرشاقتها فعل الخمرة ولصوتها أثر السحر . إنها تعبث برؤوس الجرفيين وتفتن عقولهم ، وتضئ جوانحهم بغناء لا يعرفون مصدره . إنه غناء استمدته من نجمة الزهرة ، إلهة الحب ،جراء استلقائها ليلًا على السطوح . من هناك تنسمت هواء/ى عليلاً فنبتت لها حراشف صغيرة غدت أجنحة تذبح الهواء ، فلما طارت بحلمها لفهما ظلّ ليل ظليل بهيم ، وغيّبتهما في الجرف طلقة قنّاص جرفيّ خبير .

تقرر هدى في "جناح لم يكتمل لقمر.. لجرف" أن في الجرفيين أناس/ث "في المساء يقصون أثر الهواء بالنوم على أسطح المنازل" ولكن لا فكاك من المتأصل المقدس . وأن فيهم من يتأثر بالنور ويتلوى تحت شعاع المعرفة ، ولكن الجرفية متمكنة والتمرد عليها لا يجوز لأنها أنثى . وهكذا يصير لزاماً على الأنثى البقاء مطوفة حول دار البعل وغلاله متسلِّمة مفاتيح الواجبات وقائمة الطاعة ..

غنت زهراء لكي تنسى التعب ـ وتزجية الفراغ بالغناء عادة جاهلية .. حاولت الهروب بالتحليق بجناح واحد فوقعت وهذه هدى ، شريفة أخرى ، تحلق بجناحين فعسى أن يخطئها رماة السلَب ..

قالت ماري زيادة لجبران في ختام إحدى رسائلها :"غابت الشمس وراء الأفق ومن خلال السحب العجيبة الأشكال والألوان حصحصت نجمة لامعة نجمة واحدة هي الزهرة ، إلهة الحب. .ربما وجد فيها من هي مثلي، لها واحد جبران .." فقال شيخ الأدباء معلقاً :" إن العقل في المعنويات كالبطنة في الذاتيات أصل كل بلاء .فياويل الإنسان من عقله ".

                            *       *       *

الجزء 2 من المقالة بجريدة اكتوبر تَهْبَع هدى في أثر المحدثين وتجاهد لكي تكون لها طريقتها الخاصة في تنضيد الأشياء . حاولت تجديد توظيف المفردة فلم تفلح بأجر المحاولة ؛ لأن للغة ضوابط وقوانين لا ينبغي الاقتراب منها بغير دراية وخبرة كافيتين مثال قولها: " عضّدوني (عزيمة) على زندي، تميمة بركة.." وهنا كسرت هدى رقبة المفردة لتضفي معنى المساعدة لها والشد من عزيمتها من (قبل الأهل) ، ومع ما في قولها من تندر وسخر لذيذ إلا أن الفصيح الصريح المريح هو في قولنا العامي"زنّدوني". ثم جاءت بالتميمة تفسيراً للعزيمة المفسرة أصلاً في الهامش/إشارات ..العزيمة غير التميمة ، فما يؤخذ من كفن الميت ــ يا بنت جدي ــ غير ما يُحَرَّز لردّ السحر والعين والشيطان ، والزنود من صنع اليهود ، والتحريز من فعل أهلنا السادة ـــ أنتم الكهنة ، ونحن اللاويون ...

خيال هدى قوى، والخيال القوي يولّد الهوى. وهي شاعرة متدفقة الانفعال ، والانفعال المتدفق من شروط الشعر وليس النثر. إنها تصبُّ انفعالاتها داخل قصيدتها / نثريتها وذلك يُمَكِّن القارئ من استحضارها وتمثّل تجربتها ؛ وهذا ما يعبر عنه النقـاد بـ (المعادل الموضوعي) أو (التعبير بالصور). وهدى تستخدم الاستعارة باعتبارها " صورة أدبية " لا مجازاً أو بعضاً من تشبيه ، باعتبارها نتيجة تزاوج بين الصورة وباعتبارها رؤية تجمع الذاتية والموضوعية معاً ، فإذا الاستعارة أسطورة بحسب تعبير الناقد مكليش .

في "وابل دم" تتتابع الاستعارات القائمة على الإدراك الحدسي لسر التجانس في اللاتجانس ،حيث الاستعارة جزء من عالم القوى المتفاعلة ،كعملية ديالكتيكية ، ذات طرفين : " شعاب السيل تجلجل ـ الماء شلالات لبن ـ أثداء الحبل ـ عوى الخوف ـ زمجرت السماء ـ تنادت السحب ـ الأرجوزة تنبح ـ أسمال الخزي ترتدي حياته ـ لهاثه يهدر " ..

في الأولى " شعاب السيل "من جنس الطبيعة وفعل الجلجلة من جنس آخر ، إذ هي هنا لا تعني ( الدحرجة ) بل صوت دوي السيل وأصوات هوام الجبل وأوابده من حيات وثعابين ( جامد+حي )، وفي الثانية المشابهة الموضوعية بين الماء واللبن هي صفة السيلان ، أما " أثداء الجبل " فاستعارة تقوم على توحيد شيئين هما المرأة والطبيعة وهنا أنسنة أو خلق حياة في الجامد وهو تكوين ووجود غير واقعي أي أسطورة . وفي " عوى الخوف " تشبيه للخوف بالذئب في إرهاب دواخل الذكر ، وهو تكوين أسطوري آخر. وطالما جعلت الأنثى في محل الطبيعة ، وصُوِّرَ الذكرُ ذئب يعوي بالخوف من مطاردة الكلبة الأرجوزة ، فإنه لابد أن تغدو للسماء زمجرة اللبوة ، ومنطقي أن يقابل ما في الفضاء من حيوان طبيعة مؤنسنة حيث السحب " تتنادى " .. وينتهي الذكر مخلوقاً غريباً جامعاً ما بين حيوانين: الذئب والجمل " فتح الباب ولهاثه يهدر ".

أنسنت هدى الطبيعة لتجعلها رمزاً للأنثى ، وطَلَتْ الذكر بصفات الحيوان الذئب اللاوي ذيله حال النكوص ، وأعطت للأرجوزة صفة الكلبة إن لم تكن أختها. ولكن هدى تبقي كاف التشبيه حاجزاً ما بين الأنثى والذئبة وفي ذلك ما يوحي بأنها تلقي بكل اللائمة على الرجل وحده. وللتعبير عن استهجانها لتلك الحيوانية الذكورية السلطوية التي لا تنفك تشكل هما رئيسياً للحاضر العربي ، واستمراراَ لصراع الجنسين العربي ، جاءت القاصة بالمضارع في صيغتيه ( ياء المذكر وتاء التأنيث ) ووضعتهما وجهاً لوجه : "شعاب السيل تجلجل ، يتراءى الماء من بعيد شلالات لبن تسيل من أثداء الجبل ".

وكما حاصرت ياء المضارع بتـاء التأنيث ، جعلت الماضي يطلُّ من خـلال المضـارع : " كانت أمطار غزيرة .. عندما تنادت " . وما أن تبدأ بفعل ماض حتى تلجمه بالمضارعات : " حث الخطى .. يجب أن يصل قبل أن يسدل .. " ويستند المضارع كامل الحضور على ماض ناقص : " كان يقف خلف الظلال الكثيفة ". ما أوجع هذا المنظر لذلك الواقف " مختزناً " اللحظة أو " مخزناً " لها خلف الظلال الكثيفة ..

إن الفن كل الفن هو في قدرة هدى على إعطاء تأويلين مختلفين للمقولة العجاوزية عن الثأر : ثأر الرجل من خصمه الرجل ، وثأر الذكر من عدوته الأنثى ، وكانت لحظة التجلي في تأويل " الموت على الفراش " وتوظيفها وفي رسمها. ولا أحد يدري كيف استطاعت أن تأتي بذلك التمثيل في تحويل بعض الجرف إلى رقبة للخصم الآخر " تمتد أمامه خارج النافذة ، تلتمع تحت ضوء القمر " فيتناولها الذئب اللاهث الهادر كالجمل / كالسيل بخنجره ، وقطرة الدم حفرت سرداباً .ولهدى في التصوير فلتات بل فلذات غاية في الهدى وفيها روعة الفن من مثل: " يندلق بصري على دودة تزحف، تحزنني انعطافات جسدها الهلامي.." فأقول فيها ما قاله الفرزدق في جرير:" ما أشرد قافيتها وأحسن ناحيتها "! ولها سقطات مفجعة كما في هذه الإنثيالة :

" أشعل برميل جنونه، واعتمر طاقية الغياب، ومراقباً الصهد المتنامي كان ـ وحين سألته: " أترفو حذوتك أم تحاول لجم الفرس الجموح؟

أجاب:" أحاول تصفيف جنوني الأنيق".

انبجس تأريخ بينهما فأكملا لغتهما، عندما كانت الغيابات تنبلج عن حلّة الضباب

والجة مفازات الجنون."

هذا شعر صافٍ فيه ميتافيزيقية عذبة ولكنك أفسدته بحذلقتك. فماذا لو قلتي ( وهو يرقب الصهد المتنامي سألته )؟ أليس هذا أسلم من قولك الذي يشبه ترجمة الكمبيوتر؟ ثم كيف يتآلف الإنبجاس والإنثيال وأخواتهما ـ وأظنها تصريفات حبشية ـ مع الإبداع الكامل في" تصفيف الجنون الأنيق"و"الولوج في مفازات الجنون"؟ إني أدرك أن في الأمر كل المشقة على القاصة فهي تحاول ،فوق الجهد، أن تصعّب وأن تعمّي لكي تصل فقط إلى خاصة الخاصة ، ولكن عظمة الفن تكمن في العفوية والمباشرة ، أما المواراة والمواربة والتخفي وراء ظلال المفردة فتبهت المعنى أو تغيّبه ، ولا شأن للفن بالمبررات.

أشهد أننا جميعاً جالسون في ثقب الإبرة ، لا حرّية لنا في أن نمسك الخيط أو نمده ، و إنّا بذلك فرحون ـ كما تفلسف النفّري ، أما هدى فلم تقبل بالقعود في ثقب الإبرة لا تبرحه ، ولم يكفها المخالفة والتمرد بمسك الخيط ، بل هي قفزت من الثقب/ الجرف نحو زهرة الكيمياء/ حجر الفلاسفة فحولت التراب إلى ذهب. فان قيل قديماً : " مذاكرة الرجال لقاح الألباب "، فإني أضيف بعد الرجال، والنساء من طينة الشريفة.

من المآخذ على المجموعة أن صاحبتها لم تعط اهتماماً كافياً لعلامات الترقيم والفواصل والنقاط ، أو هي لا تدري أن علامات الترقيم هي للقصة أصلح ، والفراغات والنقاط للشعر. ولان ما تكتبه هو شعر منثور فإنه يقع عليها الجمع بين علامات الترقيم والنقاط المتتابعة لإذابة التفاصيل لما تريد كتمانه ، وحيث لا يؤدي الترقيم الغرض يستعاض عنه بالفراغات ، ولكل دلالته ومعناه .. مع أن فن السكتش يقوم على تكثيف المعنى ـ ( وليس " العبارة المضغوطة " كما عبر السقاف لأن التكثيف فن والضغط مرض ) ـ وتكثيف المعنى يستوجب عدم الحذف، كما يقتضي أن يكون الشاعر/ القاص مالكاً للغة ومدركاً لأسرارها كتملك السيد للجان . يستطيع أن يعبر بأقل الكلمات عن معان كثيرة متجنباً حشو الكلام ولغوه . ولهدى في ذلك سقطات في مثل قولها في " وابل دم " : " وبعد العصر أمسى الوادي يلتطم " فكان أحرى بها حذف (بعد العصر) لان (أمسى) شملتها وعبرت عنها ، وقولها " وسد كتفيه بعصاه " والصحيح (على عصاه) ، وقولها "واحمرت عيونها الحادة كذئبة " ولصحيح (عيناها) ، أما تعبير " غص حلقه " فلا هو بفصيح ولا بعامي وأحسبه طمبرياً . وفي قولها " وزمجرت السماء برعد أحرق الظلام لبرهة " تعبير ضعيف، فلا يصح القول بأن الرعد أحرق الظلام لا على المجاز ولا على الحقيقة ، ففي الاستعارة السماء مؤنث والأنثى لا يظهر منها سوى عيناها ، وعلى ذلك وحدهُ البرق يحرق الظلام . وفي قولها " قدماه تتلعثم " تكلف ما خفف من قبحه إلا قولها " وسوس أيلوي ناكصاً " وكادت تغفر لها السيئة لو أنها وضعت فاصلة بعد وسوس. وفي " مد إليه صحن الطعام " حشو فكلمة الصحن تغني ، وتعبر عن الطعام عبارة " لابد انك جائع " التالية . وفي قولها : " وأسمال الخزي ترتدي حياته " ترجيع قاصر ، فالأسمال الممزقة ، والدسمال الحرير الخالص والتعبير نعيمي لبناني :"ردانا الخزي والعار" (قصيدة أخي)، وكان أسلم لو قلتي ترتديه. أما " كان الليل قد ألبس الكون قماشه " فصورة ليس فيها جمال ولا هدى.

ليس ينبغي لنا أن نعدد لهدى أغلاطها ، أو أن نعيب عليها اتكاءها على أشياخها ، فمن منا لم يتعكز على شيوخه ، وإن جرأة هدى لتمسح كل غلطة. ويجب أن نشير ـ قبل الخروج ـ إلى أن قسم " انثيالات " على كل ما فيه من جمال شعريٍّ إلا أنه لا يعدو عن مشاهد متنوعة مفككة هي أسرع من جنازة بشار .. ماخلا " تنضيد " التي وفقت هدى كل التوفيق بجعلها مسك ختام المجموعة . وفيها تصور هدى موقف " لأنها " في أقسى لحظات النكران الذكوري ، وفيّة ، صائنة ، مسامحة ، عظيمة. وأعذب ما فيها: " نظرة سألت من عينيه " وسألت غير سالت .. واستخدام ضمير المتكلم المفرد "ي" الذي عبر عن جرأة القاصة ومشاعرها وأفكارها هي كمراقب ومشارك ومركز القصة :

جمعت أشياءه الصغيرة

أقفلت محفظتي على آخر..

نظرة سألت من عينيه

آخر قطرة عرق تركها على قميصه الداخلي

آخر قبلة وضعها على مكان ما من جسدي فانتشرت آخر كلمة قالها..

لم أعد أذكر الآن .

لقد أحسنت هدى لأنها لم تنشد لبضاعتها تقريضاً ولا أقامت لها مسابقة بجائزة سنية. إن "لأنها" صدمة للثقافي الجامد ، وحلحلة للأدب اليمني الراكد ، وتنبيه للفن الراقد ، وفضح للعجز الذكوري الذي يسقط معايبه ونواقصه على أنثاه. إنها استهزاء عالي النبرة بالفحل المقرّن ، وبالجمل الأعمى ، وبالماموث المحفور في الذاكرة العربية من ألف ألف عام. وقد أكملت الفنانة آمنة النصيري ما قصرت عنه أختها فرسمت إمرأة بوجه طفولي برئ لذيذ ، تلبس أبهى ألوان الفرح تقرفص في استسلام مهين لآدمية الذكر ، بانتظار عودة الفحل ـــ وإن كيدهن عظيم !

وإني أحب ، قبل الختام ، أن أسرّ لهدى بالقول : لا يهدي المرء هاجسه  إلا لمستحقه ، أما أنت فقد أخذتك العجلة وكانت عينك على الأمانة .. وكتبتي ".. لأنها .. تحاول أن تقارب فضاء يشابه رحابة روحكم مع كثير مودتي واحترامي"، فهل حسبتي أن لأدبائنا رحابة صدر معاوية ؟! إن جلّهم صحفيون ، يظن الفرد منهم أن سماء الأدب لولاه واقعة كطائر سعيد عبيد شاعر زُبيد: " ألا لولا ام قُرَينة للسماء ولاّ نَطَل" ...

عطست هدى فتناثر رذاذها المنظوم علينا وحوالينا مشيّعاً العافية ، فكان شفاء وبركة ؛ وقديماً قال أهلنا أن العافية في ثلاث : في العسل ، وفي مكوى الجمل ، وعند السيّد إذا تفَل ■

  نشرت بجريدة (14 أكتوبر) في العددين  (11719 و 20) السنة 34 ، في 27 و 28 أغسطس 2001