شريط

14‏/7‏/2014

صائم الدهر .. فاطر

السيد شهاب اللبنالفقيد الشاعر السيد صالح شهاب (اللبن) حمراوي ، والحمراوي مرح فطرة، له حِدّة في الطبع، يخلط الجدّ بالهزل ؛ إذا تحدث فثلثي جملته هزلٌ وباقيها جد ، وهو في ذلك نسخة مكررة من الدكتور حيدره ـــ رحمهما الله. وهو شهابي، والشهابيون سادة وعلماء وأمراء وشهداء حيث حلّوا. خرج نفرٌ منهم في غابر الزمان إلى الشام واستوطنوا لبنان فكانوا بها أمراء ورجال فكر، نذكر منهم الأمير حيدر الشهابي من مؤرخي القرن الثامن عشر،عاش بقرية (شملان) ودُفنَ بكفر (الشيمه) بلبنان ، وهو صاحب كتاب: " نزهة الزمان في تاريخ جبل لبنان"..

اللحجي هو هو من ألف ألف عام، إما آكلاً للمرار كالشاعرين الأميرين القيسي والعبدلي ، أو صائماً الدهر كالسيد شهاب، كذلك خلقه الله ولا تبديل لمشيئته. وهو عامل نشيط بعقله وبجنبه. فقيدنا مثلاً عمل مع السلطان الحوشبي ، فموظفاً بالإنعاش الزراعي بلحج ، ثم انتقل إلى عدن فعمل لدن أحد تجّارها بمحلّ لبيع المسجلات في النهار ، ومديراً لمخبز في الليل. دخل (اللبن) عدنَ فربح ياء إلى اسمه (اللبني)، ثم عمل موظفاً في الهيئة العامة للسينما مديراً لسينما بلقيس، وتنقل بين غالبية دور السينما في عدن ولحج. عمل بما فيه تغذية للعقل والجسم : صورة وروتي.. وقد تعلّم من تطوافه في البلدات وتنقّله في الوظائف أن " حيثما المحبوب ساكن دوب يحلى لي السكون " ، أغنيته الأولى التي غناها (شاكر) عام 1958.

د. حيدره عوض ناصر2ما كان لي حظ لأتعرّف على اللبن ، فقط شاهدت قفا الرجل قبل وفاته بأيام في مخدرة ببئر احمد ، ولكني أزعم أني عرفت وجهه من غنائياته ومما ترك من مزحات نظمية طريفة ، وما سمعت عنه من ذكر طيب من حبيبه لرضي.

عندما تقرأ قصيدة لهذا الشهاب تتفلّت منك فلا تظفر بعد الفراغ منها بشيء . إنه عَجُول غير صَبور، لا يعمل الفكر فيما يكتب، يريد أن يقول كل شيء دفعة واحدة فتضيق به الدرب. بحثت عن شيء أشبه الشاعر به فما وجدت غير الشهاب. نعم ، إنه شهاب. والشهاب في تعريفه قطعة صلبة من المادة الكونية تدخل الغلاف الجوي للأرض بسرعة كبيرة فتحترق بسبب الاحتكاك الشديد وتفنى في الفضاء ، ولكن إذا كانت سرعته بطيئة وصلت أجزاء منه إلى الأرض وسميت نيزك ـ وقلّما سار شهابنا بطيئاً ، وفي هذا القليل نجد عنده شعراً وهو ما سنعرض له.

في (أنا مجروح)، الأغنية التي اشتهر بها بعدما نشرها صوت فيصل علوي إلى أصقاع كثيرة،  يشكو هجر المحبوب ويعلن على الناس أساه وجرحه:

المطرب فيصل علوي6       أنا مجـروح يـا عالم  /  وجرحي من أعـز الناس

       وجارح مهجتي ظالم  /  بلا  رحمة  ولا  إحساس

       حَرمنــي خـدّه الناعم  /  حرمنـــي  قـدّه   الميّـاس

       تركني في ضنى دايم  /  أسير الحيرة والوسواس

مات اللبن ولم يُشْفَ من صوبه. مات وفي نفسه جرح من الأهل والأصحاب ، لكنه لم يعدم حضن الحبيبة الدافئ الذي فيه يلقي برأسه فينعم بالأمان والسلام ـ احتاج له في محنته فقال:

       نفسي الجريحة ما شفت من صوبها  /   كم  لي ونـا دوّر عن الصدر الحنون     

       يـا ليت  نفســي با تجـــد محـبـــوبها  /   يكفــــي بأنـه  دوب  للعشرة  يصون

لا يحفل (أبو بدر) بالمجاز ولا يُعَوِّل على البيان والبديع ، وإنما نظمه إنشاء معناه مقرون بلفظه وغالباً لا يتعداه إلى معان أخرى. لا تجنيس عنده ولا استعارة ولا تورية ولا تضمين مقصود، بل نظم يجري عفو الخاطر ، بسيط ومباشر كصاحبه ، وفيه صدق كثير :

       القبيلة عوجا ، عَجـِيْ تِركوبها / واعجى من الباروت غِمَّـاز العيون

       القبيلة لو ما درسـت  اسلوبها / عندك (عمر)  تلقى معه منها فنون

       حيّـــا رجال الصدق حيّا دروبها / اللي  تعـزّ الـناس ما ترضى تهون

       والذكـرى با تفضـل معانا دوبها /  ذِكْر الحبايب عندنا غــالـي زَبـون

إني أشعر بحرقة الرجل ـ برّد الله ثراه ، وأوافقه ، بل وأزعم أن بقلوب بعضنا من الكره والبغض والخبث ما لم يُحْشَ به قلبُ ( ثَبَر )!كانت له تحفظات وملاحظات على صداقات صفيّه (عمر لرضي)، فلما لم يمتثل الصديق للنصيحة صبّ على رأس الصديق شهباً  حامية:

       لست أدري أيش ذي أبلـى عمر   /    دائماً يهـوى  المقايــل  والسمر

       ربـمـا  قــد  كان عـاشق  بالنظر   /   ربـمــا قــد هــــام في خبت البقر

كنا فتشنا عن صورة شعرية فلقيناها هنا. هي صورة عجيبة للصديق (الشاعر) الذي قد هام في خبت البقر. هيام الشاعر في الصحراء لا يكون إلا بفعل الغرام ، ولكن المهجو "عاشق بالنظر"، وهو سلوك بدوي معروف : " باشوف بالعين ما با شل شي في ثباني"، لقد أثر المحيط على سلوك عمر .

أخطل الحمراء سليط اللسان لا يتورّع عن ذكر مهجويه بأسمائهم ، ويحشو القصيدة الواحدة بعدد منهم يقول:

      (فضل العمودي) يفكّر أنـي له محتاج * واحوش حق الدجاج * كفاك فوضى وإزعاج

لقد أفلح (أبو أشجان) في اختيار الروي والقافية، وحلوة هذه الاستعارة في "واحوش حق الدجاج" ، فيها تهكم مُرّ. على ما في أبي (رؤوف) من طول في اللسان، وحِدّة في الطبع، وتطرّف في الظرف والهــزل، كان ، رحمه الله ، رقيق القلب ، نقي السريرة ، عاطفياً ودوداً ، وصديقاً صدوقاً. في إحدى المرات خاطب صديقه:

       وطبعـي لم يغيّره (الزمانا)  /  لو أذُبْ شوقاً ووجداً وحنانا الحبيب عمر لرضي

فأجابه الصديق:

       إذا سألـوك عني ذات يومٍ  /  فقُلْ هـذا الذي للعهدِ صانَ

كلاهما مخلص لصاحبه على ما بين لغة الرجلين من مراح

في قصيدته " حياة المزارع" يوصف الشاعر متاعب المزارع اللحجي وما يلاقيه من مشاق. ويتدرج في رسم حالة المزارع البائس الذي جفّت حياته بيباس أرض عمله فهو (مترعوي) . إذا دفّر الوادي ابتدأت متاعبه :

       إذا جا المايْ لا عنـده نَقص منّه نصيفْ  *  يفكّر هل يِحِر الطين أو يِسْحَف سَحيفْ

                             وكم يجريْ وكم ينهَفْ  /  وكم يتعبْ وكم يِزْحَف

       وكم شلنات يتسلّفْ من التاجر(سَطيح)  *  إذا سقّى مزارعنــا يقولـوا له استريح

منظر من لحج

المرح في اللبن طبع متأصّل ، وقد ساعدته هذه الميزة على رسم حال المزارع الغلبان فجلبت له تعاطف الغير ، وحقّرت ضمناً مضطهديه. جميل قوله " نقص منّه نصيف" فهي تورية تحمل معنيين معاً ظاهرها أن عمر المزارع ينقص إلى النصف، وباطنها أن هذا السيل الذي يمنون به عليه لا يصله منه إلا النصف فقد أخذ السلطان نصفاً لري أرضه لذلك استحق التخفيف: (ماي) وليس (ماء). والأجمل تسكين القافية التي تشي بمقدار تعب المزارع وإجهاده المُعَبَّر عنها بياء المد في حرف الروي .. و(اللبن) ابن الوادي الصغير، يدرك معنى المفردة الزراعية فالحر غير الحرث والسحيف غير الدحيف، وهو يعلم ما ينبغي دفعه لإصلاح المعقم وأجرة (شيخ العُبَر) (الجرّة):

وان جا يـوم ما يحصـد يسدّدها حلوق * ويدفـع فَرقْ ذا المَعقَم، وذا حقّ النّشوق

                       وذا للشيخ والجرّةْ  /  وهذا قيمة البذرةْ

وللمالك دفع سهمه، وشَلْ منّه صحيح *  إذا سقّى مزارعنـا يقولـوا له استريح

كل كلمة في هذا المقطع فيها شعر: الكناية العذبة في "يسددها حلوق" التي رسمت لنا صغار المزارع في فاقة فاغرين الحناجر وليس الأفواه ، وكناية ثانية في "حق النشوق" وهو ما يدفعه كبقشيش تحفيزاً لمن يعاونونه ويعملون بأجورهم معه، وثالثة في (الشيخ والجرّة). وهذا المزارع يدفع للمالك سهمه نقداً ويأخذ منه وصلاً بإمضائه .

الهجاء بالصور فنّ يتطلب عين حادة قادرة على التقاط الجزئيات، وأبو هذا الفن الثالوث الأنجس الأموي، وكان زعيمه في لحج شيخنا مسرور مبروك ثم عبدالخالق مفتاح. يحضرني لمفتاح قوله في وصف (المولد):

        واللي مسك بيرق الكسوة  /  ويرش مـاء ورد من دَلْوَه

        لكــل  وافـــد  بـــلا  دعوه  /  ويعطّروا الناس بالمـزّاق

وهذا المزارع مثال الوفاء يسدد ديونه لصاحب الدكان والشارح والبتول، ولا ينسى أن يحتفل بكساء الحبيبة؛ فالذي جناه من كل هذا الجهد ليلة مع الحنون: الفنان محمد علي الدباشي4

وهَبْ لـ (لثعلبي) عاني وسلّم ما يقولْ * وسلّم أجـرة الشارح ، ويدفـع للبتول    

                  وكسوة جاب للمضنون /  وجاب الفل والحنّونْ

ويبقى دايـماً مديـون لَ العـام المليح! * إذا سقّى مزارعنا يقولوا له استريح

وقد نجح الشاعر في ثلاث: في توزيع الأشطار وتنويع القافية وتلوين الروي وهذه من متطلبات الأغنية. غناها الفنان (الدباشي) في مخادر لحج فسرت في الناس ولقي المزارعون فيها نصيراً .

نظم اللبن كذلك في الدان اللحجي وأفرغ خبرته في الحب والحياة على الطريقة المحلتية. يقول:

       إن كان معك مال أهلك يسمعوا أمرك  /  كأنهـم  عسكرك /  يُطـاع خيرك وشرّك

       لو كان انت فقـير با يخرجـــــوا خبرك  /  يابوي ما أصبرك /  وقول يارب سترك

يذكّرني نظمه هذا بقول لشاعر بدوي من (أبين) أظنه أحمد عنوبه :

       مَنْ ذي بَيسته بيده ، حيث غابت تكأ  /   وامسوا يسقّونه عسل حــالي دواء لَكْبَـاد

       وذي لا بيسته بيده ،  ولا عنــده ركا  /   يتقاسموا الحالي وهو صـابر على ما راد

انظر كيف استحق (عنوبة) أداة الوصل للميسور وحرم منها الثاني .. وعن خبرته في الغرام يقول اللبن :

      أسمر سبـاني وانا ماشي مع المغرب  *  في حـب  قلبي حنب  *  سحر العيون المُسَبّب

      لو خـيـروني سوى ذا الزين ما بطلب  *  مهما  فــؤادي  تعب  *  بصبر علـى نـار تلهب

      وان غـاب عني يكـون الجو متكهرب  *  والحال عنـدي عِكِبْ  *  ودمعة العـين  تسكبْ

 

شريعة الصوم إجبارية ، ووقتها النهار ، وهي قابلة للفدية ، بل وأحِلَّ فيها الرفث ليلة الصيام ، كذلك يسّرها الرحمن، ولكن (آل اللبن ـ بيت صائم الدهر) قد جعلوا شهرها دهراً ــــــ  وصائم الدهر ... فاطر ■

 

■  نشرت في جريدة ( الثقافية )  العدد (392) في 28/6/2007

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

imageأغنية ( دمعتك غالية ) كلمات ولحن: عبدالله هادي سبيت ، غناء: عبود زين

imageأغنية ( أنا مجروح ) كلمات: صالح شهاب (اللبن)، لحن وغناء: فيصل علوي 100