شريط

6‏/5‏/2014

الجابري .. عصفور السَّلَب المَنذور

                                     قراءة في ديوان "السديرة" للجابري (1ــ 3)

منظر من أبين 

الشاعر أحمد ناصر جابرلقد بَعُدَ بنا العهد عن (أبين) منذ زيارتنا للشيخ بلليل صاحب (باتيس) الذي مكثنا عنده نهاراً كان أحلى وأقصر من ليلة ابن جدتنا عمر . وكاد يفنينا الشوق لرؤية أبين ولشمِّ عرفها العاطر لولا الأمل ؛ وهوذا الأمل يتجدّد في " سديرة " الجابري .

إنه لتعروني لذكر أبين هِزّة .. هناك بقي الفرح فرحاً وزاد . سرى الهوى في البلاد ، وجرى الماء في كل واد ؛ وشرب الطين والرواد، واستقام على رأس كل عُبَر راقصٌ وعوّاد . يُحَمِّلُ الجمال الأبيني على ظهور الجمال، وتسير "السديرة" بالشعر الزلال، والشاعر للمحبوب المنقّش يتئلل تألاّل، ليس للأبيني على بعاد المحبوب طافة ولا طول باع ، يبدأ الحلا في أبين من اللغة وينتهي في الطباع .

... ولما عرفت أن القافلة الأبينية في طريقها إليَّ ، وأنّ سديرتها هو شاعرها المبدع البّداع أحمد ناصر جابر ، أصابتني رعشة من فرح كالتي تصيب صاحبي الطيري متى دعي إلى مخدرة .

السديرة ـ ديوان الجابريتهيأت للقادم العزيز بماء الكدّ ، ووضعت على رأس الكد "قلص بَنّور" . كالذي أسقى به الشاعر العبدلي صاحبته ، وتزوّدت بزاد الشعراء: "حلبه موزّف وخبز احمر".. لا تعجب فليس للشعراء علاقة بالمندي ولحم الضأن . مساكين الشعراء؛ إنهم يركضون لإدراك الخبز الحاف بينما يتمرغ أهل هبنقة في السمن والعسل .. يعيشون على الكفاف ، ويقال في الشاعر منهم شيطان ملعون. إنّ الشعر شقابة ولكم شقي من أدركته حرفة الأدب، ومات ( حراف نقاف ) .

طال انتظاري أشهراً ، وظننت ، وسوء الظن إثم ، أن القافلة ربما  تاهت ما بين ( الرميلة ) و ( الفيوش )، وفاتني أن القافلة قد وقّعت خطواتها على وزن ( الدحيف ) وليس ( الدّرْجة ) ــ وتذكرت قول الشاعر احمد عنوبة :

            والله إني طويت البعد وانه ما انطوى   *   جتنا أوادم زاجيه للبعد يطوونه

كانت القافلة قد تركت زنجبار في (10/12/2000) ووصلتني في (30/4) مستغرقة مدة أربعة أشهر وعشرا ... وخرجت أرشُّ ببعض ماء الكدّ في وجه الضيف القادم استبشاراً لا تشاؤماً، وأمرت " أهل البيت " بإيقاد التنور .. ترجّل السديرة عن مطيّته ، وتقدم نحونا مُسلّماً : ضريح الولية سعيدة بنت عمر ـ أبين2

        السلام عليكم يا قرون الوعول

        ويا قلوبْ السَّبول

        ويا فصوصْ القلادة

لم تزعجني كناية ضيفي "ياقرون الوعول"، ولا حسبتها من قبيل وصف ذلك الجاهلي لممدوحه بالوفاء ؛ فهي تصوير فيه إلماح إلى الماضي التليد ، إلى أيام ( ذي القرنين ) الذي لا يزال له في شاعرنا الكبير ( أبي قرنين ) ذكر وأثر؛ وما وددت إلا لو أن مضيفي خفّفها بواحدة من أدوات التشبيه. ولقد أعجبني منه أمرين : الأول أنه جمع في السلام الثاني الجبل والسهل والبحر، والأمر الثاني أنه أبقى في السلامين الأول والثاني على الكسر في الوزن الشعري ، ذلك الذي سقط وانكسر رهبة وإجلالاً أمام "آل البيت"، وهو من الشاعر تقدير وتكريم لـ "بيت العبادة". وما كانت عين الجابري على الجائزة وإلا لكان قال مقالة بشار عند دخوله على الهيثم بن معاوية والي البصرة . يا مرحبا بالجابري ، سديرة شعراء العامية .

    عصفور السَّلَب المنذور

للجابري روحٌ شاعرة متقدة ، وله هاجس غالباً ما يكون ظامئاً " مزرجماً " وفي ذلك يقول الجابري :

                  ما معي مال قد خِلّي معي مال / خير لَمْوَال / يا خلي ويا رأسمالي

ينظم في الهم العام فتنقاد له الألفاظ والقوافي ، وتطيعه المعاني ، وتشايعه الصور ، فيسوقهم جميعهم أمامه سواقة الراعي للسوام؛ ولقد وجدت هاجسه راوياً وحليلته حاضرة في "يشتكي الجابري" وفي "جاهل منقّش" .

في القصيده الأولى تجسيد حي لشخصية الأبيني الذي لايقوى على فراق الزين ، والذي يؤمن أن الهدف الحقيقي من الحياة هو إسعاد المحبوب والفرحة به. أتجر اليمنيون وتاجروا واغتنوا ولمّا يزل اللحجي وأخوه الأبيني " ما يبأ مال بن مسعود أو باسويد / ولا الذهب ذي في الخزنات حمرا حروفه " . إذا أحب أخلص في حبه كل الإخلاص ، ولكنه لا يقدر على تحمل الصد والهجران . إنه في الحب عاشق قح – وخاصة إذا طعم . ذلك هو القمندان إذ تخلف عن وعده محبوبه هدد وتوعد :

        علي صالح الطيريليه وعدني وعاب / قفّل على نفسه الباب / يا حقيب الخضـاب      

        افتــــــح الباب ولاّ /  بايقـــــع دوب قبقاب / أوجس القلب ذاب

وهوذا الجابري مجنون غرام أخر :

        جُـدْ بوصلك  وخلّي المحجبة لا تحجّـب  *  والعيون الرقيبة 

        أو  فأني عزمت العزم  ما عاد بجهـب  *  درب  ولاّ زريبـة

        برتكـن لك على غفلة وبجـلس مكبكب  *  فـي  بقيعة قريبة  

        والنبي والنبي وان لحت لي قلت بك قب* لو الحراسة كتيبة

ليت كل قارئ يفهم معنى "مكبكب". إن الجابري قنوع إلا من الهوى والموسيقى . إذا وافاه المحبوب أعلن فرحته على الملأ ، ولياليه لا تكتم سرّ الهوى ؛ وهو ذا  فرحان في كل حرف من " جاهل منقش ". هنا نسمع كشكشة أبينية لذيذة حيث يدور حرف الشين ليخلق جوّاً من القشقشة وينبئ عن طقس احتفالي عقائدي امتزج بلحظات من الرقص الاحتفالي الغرامي ، حدّ أني لم أستطع الفصل ما بين قشقشة (البيرق)  وما تصدره حجالات المحبوب :

يقـول الجـــابري جـــــاهل منقش * بيـــــــدّاته منقّــش بالخضــاب

حسين أسمر لبس بدله مزركش * حـرير أخضـر ومن عز الثياب

حبيبي ، قلت له : هشّيتني هـش * وحسنك هزّني واربش حسابي

فجـّبـى لــي جَبَا حـــاجة ممكّـش *  كتب اسمي عليهـا بالكتـــــاب

في المولد سمَّر الزين الشاعر العبدلي وكثّر ، فعاد العبدلي إلى داره ملء (الثبان) بالمشبك والمكركر، ومثله خرج الجابري من المولد رابحاً ولكنه أخفى عنا نوع تسميرته ، ولكم بيّ من الشجن لمعرفة ذلك الشيء " الممكش " الذي أُعطيه الجابري.

    طائر العافية

في أثناء مروري في ديوان الجابري سمعت بكاء وشكاء متواصلاً ، وشعرت بانين الشاعر في ألفاظه ، وفي حروفه ، وفي معانيه . يشكو الجابري " من البرد والماطر هذيله هذاني " ، ويشكو الى الزمان من فعل أقاربه وأهله الذين لم يعد يؤمل أن يلقى عندهم أماناً ، لا ، بل صاروا هم مصدر خوفه فقال بمرارة :

          إن كان خوفي يجي من حيث واكن أماني   /   منيـن عــــاد الأمـان

          وعند مَـن بشتكي ظلمي وخصمي زمـاني   /   والحكم حكم الزمان

ويشتكي من أصحابه الماكرين الذين تحولوا إلى نسور تبطش بالشاعر الغريد.. وكان الجرح العميق الغور هو ذلك الأتي من القريب الذي تقدم بشهادته الزور متطوعاً :

           ذاك لِنْسان لا زندي ولا هو زنادي  /   ذي انتطى للشهادة قبل تُطلب شهادة

ويظل حال الجابري مكدّراً وقلبه ضيّق الصبر يحترق بنار القهر ، خاصة وأن الذين يستنجد بهم من "رجال المحاجي " لإغارته لم يعد لهم منجى ولا محتجى ، والسادة الذين يقول لهم على طريقة محلتي "شاره وغاره يا الأربعة خوتي "هم أيضاً قد هجرتهم البركة ، ولم يعد لكهانتهم نفع في عصر الانترنت.

الجابري شاعر مبدع . إذا تُرك على سجيّته انطلق من بين ركام المفردة العامية كطـائر العافية ؛ وهــو حتى في ( مهراه ) " أحلى من الشهد وابرد لا اختلط في شليله "، كما وصفه الشاعر السيد أبو قرنين محقاً، يقول ابو ندى :

          دقّة العيب صابتني بصوب الضرر  *  حسّ  قلـبي مـن الدقـــــة مُصًــوَّب مكـين

          يومني كنت ظن أنى سليت الخطر  *  بعصب على الصوب لا يعثم ويصبح أفين

ما أروع رجولة الشاعر وما أبدع عنفوانه !

     يا لحبِّ البناني

وإن أشد ما أعجبني في أبي (سبأ وندى) أبوته وحنانه وافتخاره ببنتيه ، وهو أمر افتقرت إليه كل دواوين الشعر العامي التي قرأتها. ذلك انك قد تجد الشاعر يهدي لابنه أو لأبيه أو لامه قصيدة أو ديوانه كله ، لكنك لن تجده محتفلاً بأحدهم ، وخاصة النساء ، في قصيدة مستقلة. أما الجابري فلم يتكن باسم إبنته كما فعل الخالدي اليافعي (أبو لوزة) بل ذهب يحتفل ببنتيه بنغم شفّاف يقطر صدقاً ومحبة وحناناً ، وموقفاً:

              يا لهنّه ،  سبين اللب فـــي حبهنه  *  مشرقـات التداني 

              بعدهِنّه ، سرَى قلبي طليق الأعنه  *  مدّهنـّــه عنـــاني إبنتي يوم النور

              حبهنه ، سـلا  قلبي وروحي وهنّه  *  سرّ بهجة زماني

إذا اشتكى غيره من حمل هم البنات فالجابري لايكتم شكواه مجتمعاً ذكورياً قبلياً قرن أوسطي ؛ ألا ترى كيف أجبر ذلك الهم الشاعر إلى استخدام ضمير الجمع للتعبير عن المثنى ؟ .. هذه هي الشاعرية ، وهنا تقع لحظة صدق الشعر والشاعر فلا مواربة ولا مَيْن :

              مِنهِنّه ، ولا  بشكـي  لحـد  منهنّـه  *  كم  بهنه أعـاني

              ذكرهنه ، على  بالي ولا غيرهنه  *  ينـذكر في لساني

              يا لهنّه ، سبين اللُّب فــي حبهـنـه  *  يا لَحــبّ البناني

ما قرأت قصيدة وفاضت عيناي بالدمع كلما قرأتها إلا هذه الجابرية. جعلك الله سنداً لهما وأطال بعمرك ، وجعلهما وأخيهما سر بهجة زمانك ، آمين. 

    شعر وصبر وحكمة

السديرة ـ ديوان الجابريبالإضافة إلى ما اجتمع للجابري من ثقافة عصره ، لقي في حياته الخاصة قدراً من التجارب المرّة في أكثرها ، فكان لها أبلغ الأثر في نفسه الشاعره ؛ لذلك وجدنا في شعره أصداء من الحكمة : آراء وخواطر وتأملات في الزمان وفي الناس وأخلاقهم . تسيل الحكمة من فم هذا الشاعر منظومة رصينة ، ويخرج المثل من قلبه العامر بالمعرفة مكثفاً بديعاً ، ويسريان في الناس ويستوليان على مشاعرهم. وحكمة الجابري حكمة متبصر غير مستعجل. يُخرج في شعره خلاصة للحقائق التي اختمرت في ذهنه ووجدانه ، وأخرى من الإرث المتداول . هوذا يجمع في بيت واحد بين مثلين ، صدره من الموروث وعجزه من تصانيفه هو :

            من قمل ثوبك وتستاهل  *  ذي كل ليلة ولك برضول

ولا أحسبني مبالغاً إن قلت أن للجابري مثل لمسة بشّار الفنية ، إذا طرق معنى لغيره أو مثلاً متداولاً أمسى بيده ذهباً خالصاً. إنه صائغ حاذق رفيع الذوق . فشتان وألف شتان ما بين قولنا : " مايأكلك إلأ قمل ثوبك " وبين قول الجابري. ولقد أهّلته حكمته لأن يصبح محكماً ثقة عند شعراء العامية الكبار في أبين .

……….  للموضوع تتمة

 ■  نشرت بجريدة (التجمع)، العددان (440 و 441) 2 و9 ديسمبر2002 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

imageأغنية ( شرعك حكم ) كلمات: مهدي حمدون ، لحن: فضل محمد اللحجي، غناء: فيصل علوي

imageأغنية ( من بلي في الهوى ) كلمات يسلم با سعيد، غناء: أحمد يوسف الزبيدي

كلمات الشاعرين: سالم خير وبن صالح علي (صاحبا شقرة)، اللحن: تراث أبيني، غناء: عوض دحان