شريط

11‏/4‏/2013

الشعر في الحوطة .. والهوى عبدلي

الفنان علوي فيصل علوي (2)مثلت لحج إبان الحكم العبدلي "زاوية اليمن المباركة ، و زاوية العلم والتمدن " كما عبّر الأديب أمين الريحاني ، بل شابهت لحج بغداد العباسيين إن لم نقل ورثتها. فمثلما شاع الترف العظيم في البيئات الحاكمة و المتصلين بها في العهود العباسية "فافتن رجال السلطة وأصحابهم و الأغنياء جميعاً في لذائد العيش افتناناً ، اقتبسوا بعضة من أرستقراطية أكاسرة الفرس الذاهبين، و ثقافات اليونان و الهنود، و بعضه ابتكروه بوحي من وسائل الحضارة التي اجتمعت لهم ... ومثلما كثرت الجواري و تعددت الحانات لشرب الخمر و سماع القيان والمغنين " برصد رئيف الخوري ، حدث ذلك بعينة تقريباً في لحج العبدلي، فافتن رجال السلطة وأصحابهم بملذات العيش ، اقتبسوا بعضة من جيرانهم الإنكليز الجاثمين في محمية عدن التي ضمّت أجناس مختلفة من عرب وهنود و صومال وأوربيين؛ و بعضة استوحوه من أرستقراطية الهند محمية الإنكليز الأخرى و محجّ العبادلة، وبعضه ابتكروه بوحي من طبيعتهم الساحرة التي تعج بالماء والخضرة والريحان ، وبوحي من تفاعل ذلك المزيج من اليمانيين بتنوع مواهبهم وخبراتهم، الذين قدموا إلى لحج ، مَعَلمين ومَتَعلمين، شعراء ورجال دين.

الأمير  الشاعرعبده عبدالكريم بضيافتي الجمعة 9 أغسطس 1996تعاطى السلاطين العبادلة الشعر وأحسنوا نظمه ، و اهتموا بالشعراء و أغدقوا عليهم العطاء ، وقربوا العلماء وأجزلوا لهم الثناء. واهتم للشعر وللشعراء كثير من طبقات الرعية ، على وجه شبيه بما كان يفعله الرعايا الأمويون والعباسيون ــ والناس على دين ملوكهم. فإذا العامة يتغنون بالشعر ويحتفلون بالشاعر. يحيون بالشعر أفراحهم وليالي تسامرهم ، يحفظونه ويستشهدون به في مناسبات الحياة المختلفة . وإذا كان العباسيون قد أسرفوا في شرب الخمرة حتى غدت غرضاً شعرياً قائماً بذاته عندهم ، فقد أسرف العبادلة في شرب الموسيقى و الغناء. رقّقوا الشعر وخرجوا عن عموده التقليدي ، و استهواهم الموشح الأندلسي لتجدّده وتنوّعه ، فاتبعوه زمناً ، ثم تجاوزوه معنى ومبنى . استحدثوا في فن الغناء حتى غدت الأغنية اللحجية طرباً سلطانياً آسراً ؛ فأتمّت اليمن عرسها، وطلعت على الناس متوشِّحةً بتواشيح صنعاء ، ودان حضرموت بأذنيها قرطاً بديعاً ، ترفل في ثوبٍ ذي أذيالٍ مُجرجرَةٍ من غناء عبدليٍّ يأسر القلوب، ويفتن العقول. وهكذا دارت الرؤوس وتمايلت (مَيْحَةً ومرَكّح) ، وتثنّت الأعطاف، وارتجّت الأرداف، وماحت القلوب الخالية من الهموم المتوجة بالورود ، والعقول المتأججة بنيران الولاء للسلطان وللحبيبة.

المسجد الجامعكان العهد العبدلي عهد حريّة وحب ، وطرب وشرب. أبدع العبادلة في الشعر وفي الهوى، كما برزوا في الزراعة وفي الدين. أنشئوا المساجد ، وأقاموا السدود ، ونظموا القصائد، وبحثوا في أصل الوجود. احترموا الرأي والحرية الفكرية ، وشرّعوا القوانين ووضعوا (الدستور اللحجي)، وأقاموا المحاكم الكلية والاستئنافية، والمحاكم الزراعية. أنشئوا المدارس وانتدبوا لها معلمين من مصر والسودان، وأوفدوا الطلاب إلى مصر والكويت والهند ولندن وبلغاريا... أكرموا مستخدميهم وعلموهم وما بخلوا عليهم بالألقاب، كلّ بما يستحق.

آخى العبادلة بين التفاح اللبناني والعنب الهندي، وجمعوا بين الشرق والغرب في الملبس وفي التفكير. حريّة وأصالة في الرأي والحكمة، بساطة في التعامل ويسر في المعتقد، وبهم نفحات مباركة استمدوها من ربّهم الغفار الرحيم .

هنا لحج .. خضارٌ وجنانْ ، وقصيدٍ وألحانْ وقيانٍ عجِّ بهم قصر السلطان. وفي رُدهة القصر مجلسان: إفرنجيّاً وعربياً وبينهما طاولة تفصل الفونغراف عن البخاري، وتقرِّب الزائر من الأخير.

هوذاك السلطان (فضل بن علي محسن) يهتم بالزراعة ويسنّ لأجلها الشرائع، وينشر الأمن والعدل. ومن غرفة في قصره العامر يُسْمَعُ صوت المربية تهدهد وليدها من شعر ولحن (يحيى عمر أبي معجب اليافعي) لتغريه بالنوم : المطرب فيصل علوي6

يحيى عمر قــال طوّلـت البُعـودْ * لَمَه لَمَه وا كحيـــل المقلةِ

راجي وصالك لبو معجب تجود * تفضّلـوا بتّلـوا لـي حصّتي

شُفْ عـادنا ما طعمت العنبرود * تلاحقوا ما بقى من شِبَّتني

بكعــاب يطوين من بين الزنود * يا نـاس لا حد يمنّي حجّتي

وذاك هو السلطان (أحمد فضل محسن) أول الساعين إلى الوحدة العربية، يجلب الغروس من مصر والهند، ويصطحب في زيارته الأولى إلى الهند سَمِّيه وربيبه الفتى الشاعر الذي لما يزال قريب العهد بحضن مربيته ، فيقرزم واصفاً حالته :

الحوطة عام 1839م 

سبيتعليـك وا ناشــر تبأ لى الحوطة  * عبّـر لنا مـن فُـلّها النيسانِ

سلّم على الحوطة معك وا ناشر * من حين تقبل نوبة الهرّاني

والله القسم ما بفرقـك يالحوطة * لـمّا  يشلّـوني علـى العيـداِنِ

لما مـتى؟ لما متى  يا صـــابر * وان ضاق حاله قطّع الذوباني

شـدّت علــيَّ  القافلـة  بالباكـر * ماشي معي والمَقـدَمي خلاّني
واذكر ليالي سمرتك يا ساحر* مولد رجب والموكب السلطاني
عليـك يـاذي با تسلّي  الخاطر * على بلادي ، جيرتي واخواني
يا ذنبهم ذي ودّفـوا بي  سافر * يا ذنب ذي قال لي وذي ودّاني
 

وهذاك هو السلطان (علي محسن بن فضل) يقرب علماء الدين ويجزل لهم الثناء. وهنا السلطان (عبدالكريم فضل) يعزف على البيانو، ويقضي الساعات في البستان. وهذا أخوه الأمير(محسن) عاشق العصرنة والعمران، العصريّ في أعماله وفي آرائه، القومي في نزعته، الأديب الفطن.

العهد العبدلي ، هو العهد الذي أنجب الشاعر الأمير صالح سعد بن سالم ممتدح شوقي ومعاصره وصاحب "حوطة الفضائل"، وصالح فقيه الشاعر السياسي، والأمير عبدالحميد عبدالكريم الشاعر "الخطير" والملحن الكبير، وعبدالله هادي سبيت الثائر المجدّد، وعبدالخالق مفتاح الشاعر المتهجِّد ... وقبلهم وبعدهم القمندان "سلك الكهرباء في لحج" ونور الشعر ومرآته. رقصة الدحيف

وخـارج القصر ..

لبـّاجون وصُـرَّاب .. وبشرٌ من تراب ..

سـادة وحُجـُور .. وسُرُورٌ ومَسرور..

مخادر وحفلات، ومدائع وقات وسقاة ، وتنباك سُرَات ، وفضل محمد اللحجي ، وزغاريد نسوان ..

رقصات موَقَّعَة على (المركّح) وصوت الدان ، وعلى إيقاع (المَيْحَة) ماحتِ اللحجيّات وتثنّينَ غصونَ بانٍ وخَيزُران .

  عبدالخالق مفتاحموالدَ وبيارقَ ومجاذيب أحسن الشاعر المتهجِّد رسمها:

واللّي حمل بيرق الكَسْوَه * ويرش ماءورد من دَلْـوَه
لكــل قـادم بــــــــلا دعـوة * ويعطّروا الناس بالمزّاق

طبولٌ ومجامِرْ ، وخيولٌ وعساكر، وموكب السلطان و"سبيت امبام" ..

ليالٍ أضاءها السَّمْرُ، وزيَّنها الحنّا ، واحتواها عودان: عودُ دُخان ، وعودٌ مِرْنان ..

جهلٌ حتى الكفر، وبراءةٌ حدَّ السذاجة، وجدي يبقر بطنه ترحيباً بـ(با قميقم) المتنبي الطالع من قوارير السليط

باقميقم ساها وسوّاها * يدّعي الشارة وهوْ عصّار

زاد الخير وفاض، فذاقت جيبوتي من خضار (بيت عياض)، بعدما ملأت أسواق عدن والشيخ عثمان .. وفي الوهط يتسامر عساكر السلطان بشعر طمبري فريد ابتدعه قادري أحمد عوض ، نمّ عن روح صافية، ورأس خالية، ونفسٍ سالية: "والراس حبّه قَرَع، والعين حبّه طماطيس".. ومن شاء من الشعر والغناء شرب، ومن انتشى لعب ، ومن زوّر جذب ، والأرض للعبدلي والدين للديّان.

*  *  *

الشاعر الأمير أحمد فضل العبدلي القمندانوعاد الفتى الشاعر من الهند مفتوناً بالعمامة الهندية وبفاكهة الهند ورياحينها .. وما شذَّ ذوق العبدليّ ولا نَبَا فهو أندلسي الذوق والطبع والخاطر ؛ لا يرى بأساً من أن يقترن العنب بالعنبر ، والبيذان بالباذنجان، والجوز والموز باللوز ، والخيار بالمشبك والمكركر حيث يصلح كل شيء أن يكون فناً أو مادة للفن:

ياعمبا مشيّم ليلي يُضرَب لك المهزم  *  شدّوا المهر لك الادهم

بَسْلُقْ لا تبأ جلجــــل ، ولاّ لا تبأ مَتْلَم  *  وانته  كِـيْـــل  واتكـرّم

يا عنبر من أبين باتبخّر لي وباتشمّم  *  بأ قسمي  من  المقـدم

                                   حالي يا عسل نوب

كسّر الأتراك الجلف مجامر لحج فأحرق العبادلة البخور في شِقَاف الأباريق. جاءوا من الهند بالغروس، وآخوا ما بين التفاح اللبناني والعنب الهندي، وأعجبتهم العمامة الهندية فاتخذوها شعاراً وملبساً. رأوا الهنود يرقّصون بالنغم الثعابين، فتعاهدوا على أن يرقّصوا البشر والشجر والحجر؛ فجادت قريحة الأمير عبده عبدالكريم بـ" مرقّصة الحجر، ومركّزة الشعر".

نور الشعر ومرآته

مولد الشيخ عثمان في عدن سنة 1945

كان بروفروك اللحجي لا يجرؤ على أن يزعج الكون/ يطلب الحب؛ ليس لأنه ما كان ليجد من يحب، وليس لأنه كان يعاني من عقدة الخصاء، بل لأنه إبن مجتمع الأسطورة وانعدام النور. كان اللحجي لا يقدر حتى على المجاهرة بعشقه وهواه ، وكانتِ المرأة لا تظهر على المرأة ...

كظم اللحجيُّ حبّهً فأسقطه في ساحات الجذبة ، وما تردد أن ألقى بنفسه في الجب... وقاد الكبتُ اللحجية إلى ساحات الزار ، والمزَوِّراتُ كِثار ..

بحث الرجال عن الخلاص فوجدوه في النار، فساروا عليها جمراً يشوي ، وبحثت النسوة عن السلوى فوجدنها عند (كردان وفَرْهُود والجرمي وأم عنقود).. وخرجن ينفثنَ في العُقد ، واتخذن من الشيطان وسيطاً بينهن وبين المحبوب فكدن يعدمنه إلى الأبد. فهل للحج من (أبي جوان) آخر يدعو إلى النور والهوى ويحيل خزعبلاتها فناً فيقول:

خبَّروني أنها لي نَفَثَتْ  *  عُقَدَاً ، ياحبَّذا تلك العُقَد

بلى، فقد جاد (وادي السعديين) بالقمندان، وهوذا العبدلي يحيل معتقدات أهل بلدته وعقدهم شعراً ينقّي ويطهّر. ويبصّرهم بأسلوب العارف الواثق والرعوي الذي يراعي ذوق ومشاعر ومستوى فهم سامعيه ورعيته ، فلا بذيء لفظ ولا فاحش كلام. إنه لم يتخذ من الإمارة والسلطان وسيلة للمروق أو الخروج عن حدود الحشمة كما فعل الوليد بن يزيد على العصر الأموي، وما غابت عنه المروءة يوماً ؛ قال:

فين الذي با يسحره ، بعطيه في (فالج) فلَجْ * أخاف يصبح ساحرهْ أسير عينيه والدعَجْ

وقال: -----2_thumb21

كحيـــلْ العيـنْ مَسْمَسْنيْ وسمسمْ * وانـا قاصــد كرامـــــة دقّ بـابهْ

معــي الجَـذْبَة بـقـلـبي والدمنـــدم * وبـي  مِكْـــريب  يلهبـني  لهـابه
ووسْطَه قشقشـة  بـيرق ومَهْـزَم * وبحر الله مَن كــــاس اهتـرا به
سرى العاشق سرى شنّف ودَرّم * على راس الحنش يدعس ونابه

وقاومت (طهرور) وأبي (النُّفَيلي) التخلي عن شعوذته، وحرم أهله من الماء ومن الهوى، وكان في الأرض جدبٌ، وكان في النفس خواء .. وخرجت النسوة وقت " السحور"، بكباش عور، يقرعنَ في الصدور، حاملات جعاباً ملأى بالبيض و الحلويات و التمور إلى راس الوادي لملاقاة (فَرْهُود) .. وازدادت الحالة سوءاً ، فكان على قومندان العساكر أن يتصرف ؛ فأصدر (أحمد) فرمانه السلطاني ، مجده الذي ترك فيناً دويّاً كأنما "تداول سمعَ المرءِ أنْمُلُهُ العشرُ ":

           حلال العشق لاهل الهوى وامن معه الزين حبّه  *  يسوِّي له قشاقش ولبَّه

وتجتمع روح مارفل المتعصب لمسقط رأسه (Hull) بروح سابقه Herrick شاعر البلاط الإنكليزي في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وتتجسّد الروحان في القمندان. وهذا العبدلي ينصح الرجال لكي يغتنموا الفرصة باكراً قبل فوات الأوان، فأفضل عمر هو أوّله – الشباب، حين يكون الدم دافئاً. والعبدلي مجبور ومعذورٌ إذ عدّل في "جنس" الدعوة ، قال: الفنان مسعد بن احمد

حِــذِرْ يا ابن الهــوى تفزع وتندم * وذي قلبه وُرِشْ يـغـنـمْ شبابه
وحد ظاهر وحد أص أص وبم بم * وحَـدْ ذي تسمعه أذنــه هَرَا به

وذا لامــــك  وذا  يِحْــرَدْ  وبـرطم * ولا تسمـــع ملامـه أو عتـابه

عليــك الليــل لا غـــــــدّر وعتّــم * ســرى زور الحبيبة والحَبَـابة

خُلِقْ  فينا  الهوى ، شدّد  وحكّم * ومَنْ خالف هوى قلبه هوى به

وفي العبدلي من روح اللورد بايرون ، فهو يستسيغ مثله رؤية نجمة المساء عند طلوعها ،بل تعداه فعشق نجيم الصباح - وسماع الغناء ومرأى العنب الناضج يجود بعصيره ، فيتغنى الأول بموسم القطاف، ويتغنى الثاني بموسم الحصاد، والانتقال من حفلات المدينة إلى مرح الريف. أما مرأى الثأر ، ولا سيما في نظر النساء، فهو منظر ما وجدناه في القمندان، بل شارك بايرون فيه ابن اللحجية المخزومي. وهو بعد ذلك كله، وقبل ذلك كله يرى الحب هو الأعذب. وفي العبدلي من طباع اللورد بايرون جموح العاطفة والثورة على التقاليد المصطنعة دونما تطرف وتمرد. هو رومانسي في تفكيره وتعبيره، عشق الطبيعة والجمال حيثما وجد، واهتم بالإنسان كإنسان وحنا على الحيوان، وذهب إلى أعماق نفسه يفتش عن مكنون المشاعر، فسكبها أنغاماً وأفكاراً مموسقة ما تزال القلوب تترنّم بها فرِحَة ثملة.

هو ذات النغم الذي عشقه (كيتس) في صوت البلبل فأخرجه في "Ode to a Nightingale "، و(شللّي) في صوت القبرة فجسّده في " To a Skylark "، و(وردزورث) في صوت الوقواق فخلّده في " To the Cuckoo ". وهو مثلهم يعتبر هذا الطائر روحاً مرحة وليست بطائر. وهذا هو يفوق في عشقه للصاربة المشرقية "بنت الرواد" رومانمسي الإنكليز. فإن عشق وردزورث صوت الحاصدة الريفية وفضّله على تغريد الطائر، فقد عشق العبدلي عرف الصاربة وريحها (الكاشني والزباد) وفضّله على تغريد الطائر الذي لطاما عشقه روحاً سابحة، أو روحاً تحتضن "مزهراً" فتملأ الجو مرحاً وعربده:

قل لقمرينا في السمر غرّد * لا نبأ لا نهجع ولا نرقد

الإحتفال بالموسيقى

الفنان الأمير محسن بن احمد مهدياعتمد القمندان الغناء أسلوباً للاحتفال بالحياة والولوج إلى العصر. فذهب يحيل موروث لحج من رقص وغناء ارتبط بالأسطورة والخرافة والجهل إلى غناء ورقص جديد يقود صاحبه إلى طريق الحياة والتحرر ، وإلى ذلك قصد حتى في وسمه لديوانه بـ" المصدر المفيد في غناء لحج الجديد".نكر على الآخر غنائيته وذاتيتها المفرطة. ولم يكتف هو بالتعبير عن مواضيع خاصة به وحده، وما يعتري نفسه من أفراح وأتراح، بل عمد إلى تلك الغنائية التي تفضي إلى تجاوب في الشعور وفي الفكر بينه وبين المتلقي؛ فطرق مواضيع عامة وعواطف بشرية شائعة في كل الأغراض الغنائية كالغزل والهجاء والفخر، أما المدح فقد قصره على بلدته. ولما لم يجد عند الآخر ترجمة حقة لآلام الناس وأحلامهم ، تحمّل على كاهله العبء كله.

هيّن على القومندان التنازل عن السمو العبدلي، وبسيط خلع الأزار الأميري، ولكن دون التخلي عن حميته الفنية، وللغناء خاصة، شرخ القتاد – كما يقول الأعراب.. ولقد عرفنا القمندان مزارعاً في ثوب أمير. يعشق بلدته لحج عشقاً كبيراً. وجد في أرضها الخصبة، وفي تراثها الثر تعويضاً حقيقياً لتيتّمه المبكر؛ فأراد بحس الرعوي العاشق أن يجعل منها مركز ثقافة، ومنجم جمال وطرب بمعونة شقيقه (محسن) فاستخرج من مكنوناتها شعراً وخضرة، واعتجن تراثها بروحه الحالمة فقدم لنا عصائر ما تزال تدور على أفواه الشاربين على سعادة وغبطة. لقد دفعه عشقه المجنون إلى الافتخار والمفاخرة بفنه وبصنعته، فكان البائع والدلاّل.

ظل القمندان في كل شعره يبحث عن الحبيبة معبّراً عن اشتياقه ، مؤكِّداً إخلاصه في حبه كبيرنز(Burns) البتول الإسكتلندي الشاعر في A Red, Red. Rose. فلا تجده محتفلاً بلقاء ما خلا في "البدرية"؛ بل هو يحتفل بتجربته في الحب مصوراً ما أحدثه حب لحج فيه أكثر من وصفه لها ومدحه لجمالها. ظلت لحج هي الحبيبة البعيدة المنال، إذ أرادها كما هوى هو، وما قرَّ له قرار حتى رآها أغنية مكتملة العافية قد طبقت شهرتها الآفاق، فاحتفل احتفاله الثاني في " واعلى الحنا"، وهي التفسير للفرمان السلطاني في "البدرية":

المقالة  بصحيفة (التجمع) العدد 338 في  15 فبراير 1999نُجَيم الصباح ،

يـا مرحبـا بالضياء والنــور

هاشـوا مُهَجنا بنــات الحور

فين ( النُّفَيـلي أبو طهرور)

يمحـي لنا في الحشا سجّين

لقد ملأت البدرية الدنيا وأطربت الناس. القمندان لحجيٌّ إن هدّد وتوعّد أو شرب وأرغد ، لحجيٌّ في حرارة دمه وإيمانه ، ولحجيٌّ حتى في حلفانه . محمد كريدي وحيدره برقش في الفرقة النحاسية2

كلّفه عمه السلطان أحمد فضل – قبل دخول الأتراك لحج، ثم أخوه السلطان عبدالكريم – بعد خروجهم منها، كلفاه بقيادة الجيش النظامي الوليد للسلطنة .. وتفرّغ "أمير اللواء" لتطوير الجيش العبدلي؛ فاستورد له السلاح والذخيرة : الكمنجات بأقواسها، والأعواد بأوتارها، والإيقاعات والدفوف والقشاقش..ولا عجب، فالهوى ما زال يطارده ؛ وهذا هو يشكو مُصَابَه:

آح يا بـــوي من ذا الهوى * لا  يحـــــاذر ، ولا لـه دوا

صــــاب حتـى (أمير اللوا) * وين بشكي من اللي جرى

حــرّق القلـب حــرّ النــوى * كيف ودّف وكيف اكتـــوى

ما تجي شي المحبة سوى * كــم متيّـــم مسى يعـتــري

وغدا المحارب اللحجي تحت قيادة القومندان مطرباً. أعلن الأمير الحرب، وأطلق الصفارة إيذاناً بالهجوم ؛ فتقدمت فرق الطرب تحت راية الهوى إلى ساح المعركة، لتنازل فيروسات الجهل التي أصابت العقول، والميكروبات التي تمكّنت من النفوس. ودارت معركة حامية الوطيس خرج منها الجيش القمنداني منتصراً يعزف السلام العبدلي ، ويُسْمِع الأديب الزائر أمين الريحاني النشيد الأمريكي.

وكانت بلحج لبنات مبعثرة من تاريخ وحضارة تبحثُ عن مُلَمْلِم ، فكان القومندان هو (ام شُعَيبي) الذي لمَّ تأريخ لحج ولملمه – وما طلب " جديو". وكان المؤرخ ومصنفه، كلاهما، الهدية السنية التي جاد بها الزمان فيما جاد على اليمن الميمون. وما ارتضى للحج إلا أن تكون "غرّة الدنيا ويعسوب اليمن". منبتاً للشعر والهوى ، ومنجماً للمعرفة – والمعرفة هي الحرية . . والشعر في الحوطة .. والهوى عبدلي

ـــــــــــــــــــــــــ

نشرت بصحيفة (التجمع) الأعداد: (336) في 8 فبراير و (337) في 15 فبراير و(338) في 1 مارس 1999 ، ثم في جريدة (الثقافية) العدد (136) في 4/4/2002م

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

image_thumb12أغنية ( يا مرحبا بالهاشمي ) كلمات ولحن: الأمير القمندان ، غناء: علوي فيصل علوي

image17_thumb2أغنية (ياقلبي الجريح) كلمات: صالح نصيب ،لحن: فضل محمد اللحجي ، غناء: عبدالكريم توفيق

             المقام: راحة الأرواح، الإيقاع: زف لحجي (8/6 هاجر+مرواس+مرداد)

الأغنية أداء المطرب عبود زين