غنت بنات زيوس التسع مرّة فطرب جبل Pieria ، مسكن الإلهام الشعري ، وصار يكبر ويعلو فجاء حصان ربات الشعر ورفسه فتوقف عن النمو ، وانفجر نبع Hippocrene. من هذا النبع نصح الناقد الإنكليزي إلكسندر بوب الشعراء والنقاد الشرب حدّ الارتواء. نصحهم بالتعمق في دراسة الشعر لأن المعرفة القليلة تسبب الغرور قال:
Pierian spring Drink deep, or taste not the
.. وسال وادي دوعن فحفلت (قيدون) بالرموز والأسرار، وانسكبت (بضه) عسلاً شافياً. من نبع (شجيمجي) ، الهامس فرحاً فوق ذراع دوعن الأيمن ، شرب العمودي شعراً و(دحيفاً) على المدروف والقمبوس، ومن (بضه)، الجالسة سعيدة فوق ذراع دوعن الأيسر، استقى ذوقاً ومعرفة ، وعبَّ من زمزم بركة ومحبة فاستعذبت روحه الاستظلال بضوء نار الهدى
----------------------------------------
يمتد ذكر العمودي إلى أكثر من ألف عام قبل الميلاد. ومن ذريته ولي الله الشيخ سعيد بن عيسى العمودي المقبور في (قيدون) بوادي دوعن بحضرموت, وله كرامات مشهورة تعانقت فيها الأسطورة بالخرافة وغدت الحقيقة فناً. لقد استولى تلميذ باعلوي النبيه على العقول والأفئدة وجاء فوق أستاذه علماً وبركة, فاستحق أن يكون "خزنة الجود وقليده" ــ كما عبر السيد المحضار. ولطالما حدثتنا جداتنا فأمهاتنا في لحج عن كرامات هذا الشيخ وكيف أنه كان في قافلة اعترضها قطّاع طريق فأمر القافلة أن تعمّد أي ترتفع فعمّدت وعبرت من فوق رؤوس اللصوص ونجا القوم , ومن هذه الحادثة جاءت تسميته.
هو ذا محمد بن عبود بن علي العمودي شيخٌ عمود من شيخٍ عمود, شيخُ علمٍ وبركة كابراً عن كابر, فليس غريباً أن تأتيه الدكتوراة في إدارة الأعمال منقادة لتتزيّن به. هو بذر حضرميّ نبت بأرض مقدسة. من قبر جدّه الكبير يستمد (أبو علي) البركة, ومن صندوقه المقدس تواتيه نفحات الحكمة والفطنة, ذلكم الجد الذي امتـدت كراماته من (قيدون) محلّة (آل باداهية) , أخوال الشاعر, بحضرموت وحتى (بيت عياض) بلحج حيث ما نزال نسمع الناس يتغنّون في آخر جمعة من شهر رجب من كل عام:
عمودي يـــا عمودي عمود الدين غـارة / وانا قلبي مولّع يبأ راس المنـارة
عمودي ياعمودي عمودي ساعة الضيق / وانا قلبي مولّع يبأ بين السنابيق
ـــــ خاطركم يا المشايخ !
من مأثور الحضارمة قولهم:" شيخ وعرفناه , سيّد أين دليلك؟" أما وقد جئت أيها الشيخ إلى وادينا (عبقر) فاسمح لنا, في هذا المقام, أن نحلّ عنك ألقابك الاجتماعية والأكاديمية, ولنقلب قول أجدادك الحضرموتيين إلى: شيخ وعرفناه , شاعر أين دليلك ؟ فهلاّ أمرت القصيدة بأن تعمّد ياشيخ .. جئناك يا سمعان.
اليوم يومك يا بتول * غدوة لِبن عيسى مزار
جاءتني دواوينه الأربعة ولم أضرب لها كفّ موعد ، فانبهرت بشكلها: طباعة أنيقة على ورق فاخر في غلاف فخم مع اثني عشر سيدي نصفها عن رجل الأعمال العمودي ونشاطاته الاجتماعية ونصفها الآخر يحوي قصائد الشاعر المغناة ..في دواوين بن عبود الأربعة: (نفحات الورد ـ مترجم إلى الإنكليزية ـ وسكن الليل, منتهى الحب, وربيع العمر) يتآخى الفصيح والنبطي و"يتخاويان" على وتر المحبة, ويسيران معاً يشيّعان قلب عاشق ذاق الهوى حدّ الجرح.
شيخنا مجروح , ولا غرابة , فشعراء السعودية الكبار إما أمير "محروم" كعبدالله الفيصل أو أمير "محزون" كخالد الفيصل أو شيخ "مجروح" كابن عبود, وما بانت لنا غير سنّ (ابن شلحاط) فلا أعاد الله العبوس لشعر الجزيرة. اشتكى عبدالله الفيصل, وهو أسد الجزيرة وحامي المقدس ومالك القول والريال, من الحرمان وبكى حاله أمام الحبيب المعاند:
ولولا الحب في الأعناق رقّ / ملكتكِ باليمين وبالشمال
وهوذا العمودي, وهو الشيخ والدكتور ورجل المال والأعمال الكبير, يئنّ تحت ضربات الغرام ويشكو:
ماحد تعب في الهوى مثلي / والكبد بالسيف مطعونة
با سامحه لـو نـوى قتلي / والحب باعطيه قانـونه
وعلى كل ما أعطاه المولى من نِعَم وما بلغ من مجد وشهره فإنه يشعر بغربة, ويعترف:
رغم أنني في دنيتي نلت المُنى طلت السحاب
لكنني في غربتي شفت الضنى ذقت العذاب
أحسب خطاي / والفت وراي واكتم شكاي / واخفي العتاب
* * *
الخِيل والخَيل والخَال
أبو عبدالرحمن شاعر غزلي, والغزل لغة الحب, والحب، كما يقول شيخ الأدباء:"ملاك الحياة وُجِد لحفظ النوع فهو لا يفنى إلا بفناء هذا الكون, وهو إذا شاخ مع الفرد فإن نواته لا تموت أبداً"، والعشق أحد درجات الحب وفيه يقول الأمير اللحجي (القمندان) محرّضاً:
مُباح العشق لأهل الهوى وامَن معه زين حَبّه / يسوّي له قشاقش ولَبّةْ
ومثله فعل الشيخ الحضرمي (أبو دحمان):
الحب ما هو عيب يا نايم ذهَنْ / من حب خلّه يسهر الليل الطويل
يدور شعر العمودي حول المرأة , ولأن المرأة أبدع مظاهر الطبيعة فهي في عيونه بهيّة كالقمر, جفنها كالهلال, وجيدها كالريم ونهدها كالثمر؛ وهي رشيقة وخفيفة كالوعل , وفيها من أشياء البادية وحيواناتها صفات كثيرة. ويعشق العمودي ثنايا الحبيب وريقه، والريق للدعوني عسل:
يـا رومي العنـق والهيكل / يـا شهد جردان بجباحه
عن مُغرمٍ في هواك اسأل / ياللي ثنـــاياك وضّـاحه
ويستهويه صاحب الخال المُغنّي:
حلـــــو المباسم تثـنّى / والخـــال ع الخد غـنّى
والشعَر بالورد مشبوك / خايف عليك يحسدوك
الورد يا شيخ اسم عام وأنواعه وألوانه مختلفة فلو قلت (الفل) لكان لنا مخرج منها ومُعتَصر. وكامل الحسن في عيون ابن عبود مَن كان يشبه الخَيل في مشيته والنوب في حنّته:
مَرّ جنبي على الأقدام، عابر سبيله / لا قَـبَل خيل عنتر وان قفا خيل شيبوب
مثل أبو النوب له حنّه ورنّه جميلة / لا خـرج من جبوحه يتبعه كلّه النوب
انظر، يحب الشاعر أن تكون لصاحبته مشية خيل عربية أصيلة لا خيل تُبّاع كرومل ذوي الرؤوس المستديرة (Roundheads) الذين سار محفوفاً بهم ضيفاً على صاحبة التاج البريطاني.
من على حنجرة المطربة (روزان) يخاوش (ابن بضه) الخِيل فيسّاقط رطباً جنيّا, وما رام صاحب مجلس الفروسية غير شمروخ من المَطْي, وما بين الخِيل والخَيل نسب يذكَّر بصاحب "قصائد نبطية" المولع برسم الخيل وركوبها. ويذكّرنا قول العمودي بـ(شُعْفة الشيخ سعيد) - خاطرهما:
يا مخاوش الخِيل تسلم / مُدْ لي من المَطْي شمروخ
لطفك وعطفك علينا / يكفيك من كِبْـــر وشموخ
* * *
بين أبي دحمان وأبي جوان
مِثل الشيخ عمر مثّل الشيخ العمودي لنساء عصره شركة مساهمة, فقد منحهنّ فؤاده فشركنه في مخّهِ والأعظُمِ. هما في عيون المعجبات الحلم المطلوب، وكلاهما مؤصّل وميسور ووسيم وشاعر, وإنما امتاز شيخنا بوفائه وصدقه ، بينما اشتهر المخزومي عند صاحباته بالخداع فامتلأ شعره بالأيمان الغليظة. للعشق قانون يتوارثه أهل الغرام ويجلّونه، يعلن العمودي التزامه بكافة بنوده وهي: عز المحبوب، والوفاء بالوعد, وحفظ الأسرارـــ والحضرمي كتوم لا يهتك سبيل الحب فالهوى يُستدام بالحذر, وآخرها الصبر على متاعب الغرام:
أنا جيت من شان باعزّه / وعَدت والوعد ما خونه
مهما تحمّلت من شانه / بصبر, وكلٍّ ليه مضنونه
إذا أخلف المحبوب وعداً استحال الشاعر كتلة من نار:
ما أبي حتى أشوفك / كل شي فيني زعل
وحينما يصدق وعده ترى الشاعر يهلل فرحاً:
كل الأحبة صدّقوا الميعاد ماحد غاب / حتى القمر بدري طلع ما طوّل غيابه
ولمكتوب المحبوب بعضُ أثر الوصال:
لو جاء يوم منّك جواب / يشرح فيه فصل الخطاب
بفـــرح به كما مولـــــدي / خليهـا بســــاط احمــدي
هذا شعر فيه سهوله وبساطة وعفوية وخفة وموسيقية يستحق صاحبه الثناء. إنّ لأبي عمر أسلوبه في الغرام وفي التعبير عن الهيام, هو عاشق قح وهو طبّ بأمر المرأة المعاندة. قابل (أبو عمر) جميلة فحاورها على الطريقة العمرية:
قلت مشكورين يـا بنت الكرامْ / وين ساكنكم؟ عسى الساكن قريبْ
مقصدي سلّم على اهلك والعِمامْ / (نا عمـودي , منّكم ما نا غريبْ)
لاحظ كيف تُسكَّن الصدور والأعجاز عند السؤال عن المسكن! إن مقلع أهل الغرام واحد, فقول الشيخ هذا يذكّرنا بقول شيخ الغزِلين لصاحبته هند:
إنما أهلك جيران لنا / إنما نحن وهم شيء أحد
ولكن الشاعرين قد عادا بسلتيهما فارغتين، فهند ماطلت أبي جوان إلى بعد غد، وأما أبو دحمان فرجع من عند البدوية يجرّ المنى جرّاً ليقول:" بس أنا مالي في الطيب نصيب". وفي محل آخر يخاطب محبوبه :" إذا تبغى الطمأنينة/ قرب أكثر من الخوف " (منتهى الحب 101). وإليك حيلة عمودية أخرى فانظر كيف يكيد العذال:
أنا شفتك تمشين لوحدك / سرحانة وايدك على خدك
ببراءة كيف اطلب ودّك / ونكيـــد عـذالي وعـــذالك؟
العذال عنده كما هم عند باقي شعراء العرب أعداء لا خصوم وسبب ذلك حدة العاطفة عند العربي، وشيخنا يحب الجبر:
أنت مُنى قلـبي وغـاية مرادي / امشي على دربي وسيب الأعادي
الجبر واجب في الشريعة وفي الدين
الشيخ محمد صديق للمرأة وحبيبها, يستوحي الجمال والحب ويقول ما يشعر به ويبتعد عن القبح والبغض. وهو لا يرتضي للحبيبة إلا أن تكون مواصِلة:
ليلة النور لا شفتك كما ألف ليلة / أنت أول حب وآخر حب ما فيه تغيير
حبيبات بن عبود بدويات كأنهنّ الغزلان ومدنيات كأغصان القرنفل, يسيل من شفاههنّ العسل دوعني من (الشَّعبه) ويفوح من برودهنّ المسك والعنبر وعطر الطائف:
قربك يرد الروح يا عطر السمر / يا طايفي يا مسك يا عنبر وعود
بسبب الحجاب شعراء السعودية مفتونون بالعيون ولغتها بل هم ضحاياها, ذاك الأمير عبد الله الفيصل يشكو فعلها:
ردوا سهام الجفون / عن قلبـي المسكين
لا توقظـوها جراحاً / أعفى عليهـا حنيني
فقــد بــذلت شبـابي / ضحيـــة للعيــــون
أما رحمتم حطــاماً / نـــــاداكـم بالأنين
فإنْ أردتم بقــــائي / ردّوا سهـام الجفون
وهذا الشيخ محمد يحار في فهم أسرارها:
سهمك المجنـون سرّ غـــامضٌ / لست أدري يا ملاكي ما يكون
هل طويت الكونَ في سهم الهوى/ ليـت لي فهمٌ بأسـرار العيون
إنْ يكن سهمٌ وحيــــــدٌ هدّني / كيف حالي عندما أعصي الجفون
من شعر عضو لجنة السقاية والرفادة نستقي شُهداً صافياً: عذبٌ في موسيقاه، وحلوٌ رومانسي في نسقه، ولذيذٌ في أسلوبه، ونُرفد بشعر غزل قوامه العاطفة، بغزل عفيف لا يقتصر على امرأة واحدة ولكنه لا يخرج عن حدود الحشمة والفضيلة:(نفحات 84)
ما تـرد التحيّة ؟ / ليه زعـلان منّي؟
كلِّ الأشواق فيّه / نبضها لك يـونّي
إلتفِتْ لي وهيّا / ابعد الهـم عنّـي
أنظر كيف رقّص (بو عمد) الشدّات رقصاً حضرمياً.. وإذا شئت أن تعرف خلاصة تجربته في الحب فاقرأ رائعته بديوانه (ربيع العمر). أعجبني عدل الشيخ في هواه فقد جعل لجميع صواحبه ثلاثة دواوين وجعل لريم وحدها ديواناً مستقلاً. رجحت كفتها إذ حازت على (ربيع العمر) وهي وحدها "القصيدة العصماء":
لولاك ما أصدرت ديواني / ربيع عمر , ولا تسمى
يا نغـم شعري وألحاني / وأحلى قصائدي العصما
شفتك وكحلت أعياني / يا ريـم , يا أجمل الأسما
واشتاق يا ريـم ظبياني / مثل اشتياق الشجر للما
الجميل هنا إسقاط الشاعر للهمزات فتكثف المعنى, والأجمل تلك الروح الصحراوية التي تعكسها مفردات: الشجر والمطر والربيع والكحل والريم، والأكثر جمالاً وفاؤه وصدقه, وما احتفاظه في منزله بوعلين وظبي إلا من قبيل إمتاع الخاطر بمشاهدة المشبه والمشبه به معاً.
قهوة الغرام
الشعر عند العرب كالقهوة من لوازم المائدة، والقهوة والغزل والحبيبة من لوازم السهرة. فأما القهوة فمشروب أهل الجزيرة المفضل ولهم في عملها طريقة خاصة يكاد لا يباريهم فيها أحد، وفي القهوة كتبَ شعراء حضرموت قصائد كثيرة حواها كتاب (النور السافر) لابن العيدروس. وأما المرأة فأنشودة الرجل ومطلبه، وأما الغزل فشيخ السمرة ومطلوب الحسان، وهو عند شاعرنا وسيلة للوصول إلى (الزين) وليس غرضاً مقصوداً بذاته. والأحباب هناك يتساقون الغرام بالقهوة سواء عملت من البن أو من الشاي، والشاعر عمود السمرة وعمدتها، وهو لا يشرب قهوته بلا سكرّ:
أنا اشرب قهــوتي مُرّة / مادام فيك الحـلا زايد
ولا أشـربهـــا بالمَرة / إلا وانـت متــواجـد
وجـــودك نـوّر السهرة / صبــــــايا بينهم قائد
الله، الله، كيف يُخاطَب المحبوب. وهنا يلذ لي أن أروي قصة توافق المقام. كان شاعر لحجي في مجلس سمر، فانشقّ الباب وإذا (الشريفة) تهبّ بقهوتها.. فقال موريّاً:
قهوة "السادة" رزينة / حالية من غير سكّر
أحياناً يكون شرب القهوة عند الحبيب منتهى القصد فقط ليقول للعاذل :" أنا يكفيـــــــني الفنجــــان عنده لا تقهويته"، أما حين يقطع الحبيب عادته فيُخاطَب هكذا:
زمـــان لا شفتـني طلّعـــت بنـديـرة / واليوم من شاهيـك ما سقيتني فنجان
اسقيتني مُــرّ ما حصّلتْ لي غيــره / وانا سقيتك بغيّة من عســـــل جردان
مَن شَلّ هرج العواذل صابته غِيرةْ / عوِّذ من ابليس ما حد يتبع الشيطان
تعجبني طرافة العمودي هنا ، والطرافة عماد الفن ـــ ابليس صديق الشعراء يا شيخ! و(لأبي الدُّحم) في الفصيح طرافة وخطرات عذبة أيضاً كقوله في قصيدة (منتهى الحب):
لـم أكــنْ إلا قتيـــلاً فاعتــــدى / أو أسيـراً حـلّ أغـــــــلال الدلال
عاد من أعماق روحي ما بدى / من حنيـني والأغاني في سجال
منتهى الألحـان فــــي ذاتي فدا / وعـدنا الآتـــي وآهـــاتي طوال
وصلنا كالحلم أو يصحـو الردى / بعـده ، والعمر يكفي للوصـال
أسمعت هذا الشعر الذي يجري فيه الصدق حزيناً جريان أنامل عازف لحجي موهوب على وترٍ مُرنّ . أجل، "كل شي فيك زين/ وانت من الزين أغلى" ــــــ من مالك نهدي لك يا شيخ.
العمودي شاعر "غنائي" أي وجداني ذاتي وشعره منظوم للغناء. في شعره ربيع وحب وليل وورود ونغم. وفي أغانيه موسيقية متدفقة, وفيها تطريب وإدراك لسر البحر الشعري وتنويع ووعي بقيمة القافية كما في قصيدة (ياروح) التي أجراها على (مستفعلن فعلان):
يا روح داخـل روح / يـا توأمي فـي الـروح
إن مس خلّـي جرح / أمسي أنـا المجـروح
لـو تقترب مني ــ أو تبتعـد عني
نفحة هوى حبّي ــ من روحــــك أنت تفوح
للعمودي خاصة موسيقية في أغانيه التي يرسلها عفو الخاطر ، والصوت الدوعني هو عسل بن عبود المفضل (دوعني في كلامك –ربيع 67)، أما صوره الشعرية فتعكس جو الصحراء حيث القمر والمطر والظلام والهاجرة:
طلعة جبينك نـور من نور القمر / والمبسم الوردي وتفاح الخدود
من حيث ما تمشي يجي بعدك مطر / والجو يصبح غيم والدنيا برود
والليل حليف الشاعر العاشق وخليله, وقد خصه العمودي بديوان أسماه (سكن الليل) واستهله بقصيدة هي واحدة من عجائب القصيد العربي, يقول مطلعها:
سكن الليــــــلُ والأماني عِذابٌ / وحنيني إلى الحبيب عَذابُ
أنا والشوقُ في الغرام ضحايا / سرقَ البعدُ عمرَنا والغيابُ
بيننا يا ضيـــــــاء عيني بحـورٌ / يملأ العينَ حرُّها والسرابُ
أنظر كيف "صاهَرَ" الشاعر بين نفسه والشوق , و"ناسَبَ" بين البعد والغياب, وقابل بين العذْب والعَذاب. إن العمودي رديف للشوق، وليله طويل. هذا هو في قصيدة أخرى (ياطير يا شادي) يحنّ ويئنّ على إيقاع (مفاعيلن مفاعيلن):
ألا يا طـير يا شادي / أنا حنّـيت لبـلادي
يا حظّك معك جنحـــان / سرى ليل المحب سهران
مَـن هو فارقه خلّه / تشوف العـز في ذلّه
مع رِبْحَه ترى خسران / سرى ليل المحب سهران
الإيقاع حلو وحزين, فهل لنا بصوت فيه شجو وشجن يغنيّه؟
في شعر العمودي تعبير عن حالته النفسية بتقريرية محدودة, هي لحظات تنفيس لرجل أعمال كبير كثير الانشغال، وفيه شعر هو الشهد الصافي جاءت به تجربة وجدانية حقيقية مثال قصيدة (مدري- سكن الليل79). هناك يسابق الشاعر شوقه ويبدأ بداية عذبة: (مدري سبقني الشوق / أو جيت انا بدري) ويحسن ختامها - وقلّما يتقن شاعر ختام قصيدته:
أهــواك يا مَن هوى قربي / يـــا سِيْـد ربـعي وخلاّني
يا مُوقد الشوق في صدري / ردّيت , ردّ الهوى ثاني
خلّيت راعي الهوى ــ عليـل ماله دوا
تدري أنا الولهان ــ بك ياغصين البان
شفقٍ على شوفك ــ يا حـبي العذري
مدري!
إنّ تضاؤل الشاعر أمام المحبوب تقليدٌ معروف عند الشعراء العشاق, وصاحبنا هنا عاشق حقيقي, أنظر كم تحمل كلمة (شفقن) من التودد والاستعطاف. ولهذه القصيدة لحن غاية في الإطراب بدا فيه المطرب اللحجي عبّود وجهاً آخر لابن عبود, وجميل هو القصيد وعذب هو اللحن ومباركة الأغنية متى سارت بين الشيخ والسيد.
إبن عبود كالقمر له هالة حيث يطلع ، هو المسوّر بدلال الحبيبة ، وهو المتوّج بفرحة الخلان، وهو "المحوّط" بالله ورسوله وبصالحات أجداده الكرام وبدعاء والديه، وبخاصة أمه التي، كما نستقي من شعره، يبرّها كثيراً ويدعوها نور الحياة وعماد البيت،
أرثيك يا من استنرت بنورها / كنت الضياء لأهل بيتي والعماد
ويقول :
فإذا فخرت بوالدي / فالأم في الدنيا أحن
في رثائه لها لوعة وحرقة تشي بمقدار محبته لها، هوذا ينادي ربه داعياً:
يا ربّ أمي على الأبواب فاسكنْها / في جنةٍ عامرةْ بالزهر والثمر
ولأمه الكبرى (بضه) بنت (وادي دوعن) حنّ واشتاق وتذكّر بلداتها:صيف، الواديين، الدول، المحلة، صرو
م والجول وأم الهجر و"لا سال دوعن من أم الهجر باقول ياحول"، وقال مشبّهها بملكة النحل:
حـني يا ( بضه ) حنّي / حـني يـا بلــد ( قيـدون )
أنا مشتـاق لبـــــلادي / وقلـبـي منهــا مشطــون
وأهوى جوها الهادي / وأشبعْ لي نَسَمْ وسْكونْ
الشيخ محمد بدوي الروح, تنعكس البداوة في شعره وفي سلوكه, هو عربي قح، والعربي "خلاصة إنسانية, صهرته شمس الصحراء فلم تبق منه إلا عروق الرجولة الحق وخطوطها". إذا حضر مجلساً كان زينته؛ وإذا تكلم سالت الحكمة من فيه عذبة نافعة، إنه يستوحيها من ( عبود بن حسن القحوم العمودي) القائل:
بالعقل قدّر عشر واقطع مرّه / ولا يضر الشور في ردّاده
الباب لا تشظاه حدّ الشعَرة / حتى تدير الفكر في قلاّده
ومتى جلس الضيوف إلى مائدته العامرة ألفيتَ رجلاً بدوياً كريماً يطوف على رؤوس ضيوفه حتى يشبعون؛ وإذا طربوا و"اشترحوا" انشرح قلبه وانطرب وخاض مع السامرين على وزن (القطني والدحيفة والشبواني) ، يتداوله الراقصون ويتناوبون على "ملاعبته" حتى تيبس رجلاه ويمنعه تواضعه من الاعتذار.
إنّ المرء على ما عوّده أبوه , والعمودي سليل بيت مشيخة وبركة وجود , هم "خزنة الجود وقليده" كما عبّر المحضار، فلا تظنه مبتهراً إذ قال:
ومن قال العمودي خان أو له نفس طماعة / يمين الله ما خون المحب أو بالف أو بادور
أنا أصلي وفصلي من عرب للجود مرجاعة / ومن يجبر محمد صـار مني خاطره مجبور
وإلى خصاله الحسان تلك ابن عبود ذو فضل ومعروف، وهو مخلص في ولائه ومحبته لآل سعود. فإن كان الأمير سلطان في عيون الشاعر خالد الفيصل "صقر الرجال أصخا بصقر الحبارى"، فـ(كحيلان) في عيون العمودي ديمة عالية تهمي بالخير:
كفّك ومكيالك على الأرض مكيال / كافل بشر من فضل خيرك رعاها
همّـال جودك نشربه عذب سلسال / هناه شـافي والعطاشى سقاها
هذه صورة صحراوية بديعة فيها السماء والمطر وأعناق العطاشى شاخصة مُستَسقية.
كعمود من غمام يتقدم العمودي القافلة نهاراً ليقودها إلى حقول المال والأعمال والنجاح الكبير؛ وكعمود من نور يسري بها إلى وديان الشعر ومنابت المجد بمثل روح شاعر الإباء الكبير ـ "وكلّ مكان ينبت العز طيّب". من (دوعن), وادي العسل الذي فيه شفاء للناس, خرجت جمهرةٌ من رجال كبار غطى ذكرهم المسكونة: العمودي وبن محفوظ وبُقشان وبَغْلَف وبابراهم وباخشب وباعشن وباحكيم وباخشوين وباءات أُخَر سال خيرهم على بضه وخَيلة والجحي والمخينيق وحتى سفُولة اليمنة محلة الشاعر النهدي.
الشعرهو تجلّي الإنسان في أحلى كلماته وأفكاره, وفن الشاعر هو في معانيه وصوره وألفاظه. هذه بعض خطوط من صورة العمودي الشاعر في ميزان النقد الأدبي لا المصرفي؛ الشاعر الذي استوحى الجمال والحب وقال ما شعر به فكان صدى نفسه الصادقة (نفحات 73):
بسألك وانت قادر / تغفر الذنب غافر
زلّـتي والخطيّـة / المحبـة بليـة
ما أبدع هذا التضرّع والاعتذار الطالع من قلب القلب ولمثل هذا الإبتهال الحار يستجيب الله. في شعر بن عبود نغمات شجية كالدان الحضرمي، ونقية ولذيذة كالعسل الدوعني؛ ومنه يفوح عبير المسك وريّا القرنفل ونفحات الورد. وقصارى الكلام أن (بو عمد) شاعر جميل، رصين، صادق العواطف رقيقها، شريف القول عفيفة ـــــــــ إنه لشيخ حقاً.
البيت لا يُبتنى إلا له عمُدٌ .. ومثلما لبيت الشَّعَر عمود يرتكز عليه, لبيت الشِّعْر عمود من فكر يستقيم عليه معناه, ووتدٌ من شعور تربط به موسيقاه ؛ وهذا العمودي واحد من أعمدة شعرنا العربي قد ازدانت به ساحة الشعر العمودي بشقّيه الحكمي والحُميني/النبطي, وفرِحت به القصيدةُ كفرحته بموضوعها: المرأة ـ وصدَقَ عقل:"ويلٌ لشعر ليس غزلاً". وكما حمت (شعفة الشيخ سعيد) نخل أهل وادي حجر, هذه (قصيدة الشيخ محمد) تحلّ وادينا, وادي الإلهام، فتملأنا محبةً وبهجةً وسلاماً ـ حُيّيت ياشيخ الغرام.
شرب الأمويون بكاس الغزل سمنهم والحقين، وفطم العباسيون أنفسهم عن الحليب واللبن وعبدوا الأحمرين: الخمر واللحم، وآمن المتنبي ومعاصروه بمملكة اللحم والدم، أما الشيخ محمد وأضرابه من أهل هذا الزمان فأخلصوا لمملكة الروح: تُبّاعاً للجمال، وأنصاراً للحلال، وخدّاماً للبيت الحرام. أخلصوا لعمود الشعر وعروسه وما تنكبوا عن طريق السلف المعبدة ■
ـــــــــــــــــــــــ
■ نشرت بجريدة (الثقافية) ، العدد (407) في 1/11/2007م
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كلمات: الدكتور ابن عبود العمودي ، لحن وغناء: عبود زين