شريط

5‏/6‏/2013

عبّاد الشعر .. خدّام الغرام

نجيب كرد3كثر الماء في (تبن) فرحب صدر اللحجي ، ورقت مشاعره ، ولان طبعه ، ومتى رقت الطباع تبعها الشعر. ولقد  وصف لنا القمندان شخصية اللحجي كاشتراكي متطرف شعاره أن ينتظم الخير الناس جميعاً:

وبأ لبن في الحسيني دوب مسكوب

         با اسقي المحبين من شخبوب شخبوب

نعم ، متى جادت ارضه ، وحان الحصيد والنصيد والحت جبّى اللحجي وفرّق للعابر وابن السبيل. واللحجي لا يعرف الادخار، بل هو لا ينام مادام في بيته درهماً؛ وما ذلك إلا لأنه متكأ على (مطيرته) الخصبة التي لا يقطع عنها السيد (تبن) خيره. قال سُحيم:

ألا أيها الوادي الذي ضمَّ سيله 

                   إلينا نوى الحسناء حُييت واديا

إن اللحجي صورة حقة للعربي الأول؛ وإذا كان قد قيل أن اليمن أرومة العرب، فأصل اليمن لحج المحروسة.

سالم زين عدسذهب الخمر واللحم بعقول العربان ، وتهافتوا على النسوان ، وشذ هو عن عادة إخوته فلم ينظر للمرأة كمتعة ، بل هي احتلت في قلبه موقعاً سامياً مقدساً. كيف لا، وقد كانت (زين) إلهة الجمال معبودته. سجد جيرانه لـ (نشْرَا) و (لـَشْهَل)، ونصب هو (زين) قمراً ووثناً ؛ زّينها بالنقوش وقدّم لها القرابين، فكان بذلك أول من تعبّد للجمال من بني الإنسان. من هناك جاءه هذا السيل الصافي من الشعر الجاهلي الغزلي الغنائي الآسر.

المرأة هي أنشودة الشاعر اللحجي. هو متيم بها ولهان ولع: يمسي على باب مقطوب الخصر مجذوباً يلوب ؛ ويقضي نهاره شحاذاً "يتلطلط" من باب لباب ، ولا يرى في ذلك حرجاً:

          ما بسمع الداعي لي في فراقـك قط /  با اصبرعلى ما فيني صبر أيـوب

          وان خفت من كيد الحساد با اتلطلط /  يا خاطري  ماشانك  ليه  معتوب

االشاعر اللحجي مسرور مبروك3يظل يتمنى طعم العسل فإذا ما أُسقيه ركَبَهُ الطمعُ فطلب فوق العسل "من اللبن شخبوب". تبحث عنه فتجده متكوراً عند باب المحبوب "مكبكب مشتلب" مستلب كابن جدته المشرّع المخزومي. إنه عاشق مجنون ، وقد أجاد مسرور في وصفه يوم قال:

       عاشق زري ابن حافتنا /   يلبس  ثيابه ويتعطّر /  ماشي معه في الكَمَر عانه

       يشل عصا رأسها جونه /  وجفيها مثلما المَحْمَر / كـــأنّ   ألـفـيــن  عـــدوانه

هو وريث غرام. سري الجد إلى خباء (نُعم) و (هند) و(الثريا) و (عُميره) مغامراً مخاطراً. نصب خيامه شراكاً كشعره في طريق الشريفات مشبباً مستهتراً عابثاً منتقماً. لهى مع النسوان لهو لحجي بمولد سفيان. وما كان عمر إلا مقتفياً أثر معلمه عبد بني الحسحاس ، ذاك الشاعر الذي "ذهب إلى الحدود الوحشية القصوى في النشوة والفرح بالجسد الأنثوي:

          شدوا وثـاق العبـد لا يفلتكم  /  إن  الحيـاة  من الممات  قـريبُ

          فلقد تحدّر من جبين  فتاتكم  /  عرق على ظهر الفراش وطيب

الشاعر صالح فقيهولقد تترجم سوء حظ جدنا ــ كما تقول الأديبة أمينة غصن ــ  بلعنة الشعر حين حاول إدخال العالم إلى بيت اللغة". ولم يحتمل الأسديون عبثه فقاده عشقه إلى حتفه .. ثم انتقم التلميذ لمعلمه.

أليس هذا مدار الشعر اللحجي إلى اليوم؟ وهل شذّ الورثة عن الجادة؟

ذاك (الفقيه) يتضاءل أمام المحبوب حتى لا يبقى له في حضنها ظلاً: "ليت ياليت، والله، من يقع له عُبيد". إنه مغتلم آخر لا يأبه للعاقبة:

        كودْ (بوبكر) بايحكم علىَّ بقيدْ  *  يا ليدْ ويش هم (سالم) لا تقضّت شُفوفهالشاعر الأمير عبده عبدالكريم

يُحسِن ربيب العبادلة الوصف لكنه لا يترجم ولا يعلل كصاحبة عبده عبدالكريم. وذلك القمندان قد تنازل عن السمو العبدلي وحمل المحبوب على عاتقه، فيا له من (حَمَل)! وهذا ابن عمه ، وقد فاقه عشقاً وهياماً، يدنو ليقلد (الزين) "نشان الساق في ساقه"ـــ وحجّل الزين وحنجل له:

     وعد اللقـاء بيننا في ساعة التشريقْ  /   لو بايقع له يصفق لي من الطـاقهْ

     يَهْلِ الهوى والمحبة كـثّروا التصفيق  /  بَفعَلْ لخلي نشان الساقْ في ساقهْ

وقامت الحرب على ساقها.. فهل رأيت قوماً قد بلغ بهم الوجد والعشق مبلغ ما أصاب اللحجيين؟ ومع ذلك فقد بقي الوارث اللحجي عفيفاً، وما كان قليل الحياء والمروءة. إنه مزارع. متى بلغ به وجده تخومَ الجذب الحسي حضّر عقله وارعوى، وله في السلف عظة وعبرة، وكان له في (الجذبة) و (الدمندم) مخرجاً آمناً ـ وما سري العبدلي لغير الحبيبة والحَبَابة:

            يا فضل غنّ لنا بالدان، شُلّ الربابة  /  شوف المحبين في البستان هم والحَبَابة

زهر وماء وخضاب ، وطرب وخُمر وكزاب. حبيب مؤانس ، إذا مشى خلته غصناً بين الأغصان:

          هذا الذي ينهب العشاق راس العصابة / يشابه الغصن من شافه خرج من صوابه

المطرب فيصل علوي بإحدى الحفلاتقال الشارح: (الحُبَابة) هي أم الأم (الجدة) أو المرأة الكبيرة في السن. قلت: خزاك الله من شارح لا يحسن استخدام (الوظف)..

      عليك الليل لا غدّر وعـتـم  *  سرى، زور الحبيبة والحَبَابةْ

وهو لا يخالف متى قدّم الحُبابة على الحبيبة:

     مسى ماطر بوادي الهوى رددنا لجاع المحبة * زحينا العشق أبّة وعقبه

من صفات اللحجي الإيجاز. فهو بسيط وجيز في ملبسه ومأكله ومسكنه. تدخل "مربعته"، التي أجراها على غرار قصيدته الأولى، فتجدها نظيفة مبخرّة مهوّاة لا تقطع الشمس عنها زيارة ؛ وتستقي من (الكد) سلسبيلاً " مكبياً " كالذي دعا الأمير (الرصاص) صاحبته إليه:

                غبـي يشرب من الحَيرة  *  وانا با اسقيه  ماء  الكد

                ويتبخـّر مـن  الجـــاوي  *  وانا عندي فصـوص الند

احمد سالم مهيد2وهو، على شدة إيمانه ، وجيز في طقوسه وبسيط ، لا ينفسح إلا لعاداته وتقاليده التي راكمتها الدهور العتيدة. لا تخلو عبادته من النغم؛ عبد الوثن في جاهليته مترنماً ، وسجد للرب الواحد مترنماً ، وما هذا السيل من الرقصات العقائدية كالجذبة والرزحة والدمندم وغيرها إلا بعض مما ورثناه عن عبادات أهلنا الأولين. بل وما رقصة (الحناء) إلا رقصة عقائدية عتيقة كان أجدادنا يؤدونها بالإصطفاف صفين إثنين أمام إله الماء في الألف الثاني قبل الميلاد ..

واللحجيُّ لايعمر دوراً عالية، ولايهتم بالفرش الوثير، ولا يستهوية الدمقس ولا الحرير. يقبل على الدنيا ومتعها القليلة كعمله لآخرته ، وفلسفته يلخصها الأمير (الرصّاص) علي بن أحمد فضل بقوله:

          يقول (ابو محسن) الدنيا عمارة كون  *  وكل حادث على وجه الدّنـى فان

          تبني وبينـك وبين اهل المبـاني بــون  *  يا ليت شعري متى بايحكم الباني

تفتح دفتر الغزل العربي فتجد اللحجي هو صوت الغزل ومعلمه للعربان، نسيباً وتشبيباً، وعلى الحقيقة قبل المجاز. تشهد الشاعر اللحجي سارياً على ظهور المطايا نحو بخور الحبيبة ، أو مترجلاً "على رأس الحنش يدعس ونابه" . يغمز لهذه ، ويجمش تلك ، ويعفـّى على آثار تاك.. إنه خبير غرام ، لا تفلت من بين يديه حسينه ؛ قال عمر على لسان صاحبته:

                قلت ياسيدتي عذبتني  *  قالت: اللهمَّ عذّبني إذن

وضعوا دستور الغرام ، وأنشأوا للحب في لحج دولةً ، على غرار تلك التي أنشاها في الحجاز ابن جدتنا عمر المخزومي على العهد الأموي. وأصدر " أمير اللوا " فرمانه السلطاني ، مجده الذي ترك فينا دوياً كمجد سميه أحمد بن الحسين:" كأنما تداول سمع المرء أنمله العشر – والحب مش عيب :

حلال الحب لاهل الهوى / وامن معه زين حبّه  /  يسوي له قشاقش ولبّه

وكان يجب أن يكون في دولة الحب مفسرين للقوانين ، وجلساء ووزراء ومستشارين ، فقام الشاعران: صالح فقيه وعبدالله هادي سبيت بمهمة تفسير القوانين لجماهير الغرام وتبسيطها :

ومن قال الهوى اوهام  /  فذا مسكين ما يلتام  /  لشو ربي خلق جنسين

مارون عبود بريشة رضوان الشهالأنظر كيف تساق الحجج. وقام  المطربان: مسعد بن أحمد حسين وفضل محمد اللحجي بمهام وزيري الدعوة والنشر. هي ذات دولة عمر التي وصفها شيخ الأدباء بقوله:" حوت مكتب استخبارات، وسفارة لا تنقضي شؤونها وشجونها. رسل  تروح وتجيء. جنّاد وزير دفاع ، وعتيق ذو الوزارتين ، وعبدالله بن جعفر وزير مواصلات ، وابن سريج والغريض وزيرا الدعوة والنشر . سود وبيض تقضي حاجات رجل لم تشغل باله السياسة ، فمهام دولة الحب تكفيه . اللهم غفرانك !" (مارون عبود: الرؤوس ).

نعم فقد كان للحجيين أيضاً فضل تعليم العربان فنّين : فن الغزل ، وفن الغناء. كانت نجد والحجاز – بعد انتقال دار الخلافة – قفراً بلقعاً ، لا يسمع في صحرائها سوى ثغاء الإبل وحداء الركبان ، وخليط من صرير الريح والفحيح ، وإذا الصحراء تستحيل بمجئ ابن اللحجية إلى اوركسترا من الغناء اللحجي الموقّع. تردد في البلاد صدى الوتر ، وطاب للزين السمر ؛ فقال أهل الأخبار : " وقد جاء عمر الغزل من اليمن " .

محبوبات الشاعر اللحجي مسك وعنبر ( والعنبر أبيني ) ، ما فيهنّ تفلات (خايصات). يفوح البخور من ثيابهن وجواجرهن ومربعاتهن. وطعم كل واحدة كالراح والتفاح والعسل؛ قال عمر:

ولو تفلت في البحر، والبحر مالح  /  لأصبح ماءُ البحر من ريقها عذباً

وقال القمندان:

يا لوز يا موز يا تفاح في اطباق  /  عسى من الجود يحصل يوميَهْ فرّاق

أما السوداء فليس لها من قلبه نصيب – وخاصة إذا (ألبت). هذا صالح الدميح يسأل الله إطفاء بصرها: سعودي والدميح

قدش سوداء، قدش نوداء  /   قدش مش تشبهي النسوان

ألا أبّــــاش يالســــــوداء   /   عمى  يعميش  وام الجـــان

لا  حنّــاء  معـــش  تِعـلِـــم  /   ولا نقشـة علـــى الصبعان

أنظر كيف يخاطب الشاعر المرأة بلغتها ، بلغة تدركها كل الإدراك. يقرّبه إليك أسلوبه المتميّز الذي هو ككوفيته التي تميزه عن باقي الهامات العابرة. نعم ، للشاعر اللحجي أسلوبه الخاص الذي به يعبر عما يحس ، ففي بيئته ما يغنيه عن الالتجاء إلى غيره ، فلا يجعل كلامه على القوالب المعلومة بل هو يجريه على "شيلوب" خاص به ــ ولحج ، على كل العهود والعصور ، معبر للقوافل العامرة ، وخير بضاعتنا على وجه السحّارة.

لغته فصيحة صحيحة مسكونة. تقرأه اليوم فتخال أنك تقرأ شعراً أموياً. يفصّل الكلام على قدّ المعنى فلا تخرج معانيه من نظامه. هو جد البحتريَّ في تقطيع أبياته ، فكأن كل قافية من قوافيه قرار العوّاد، تُجهِزَ ريشتُهُ على النغم فتتعالى الاهات، و..تسقط الهمزات:

مطرب لحج الكبير فضل  محمد اللحجيعيني على (بو صالح) المفقـود جودي بالبكا

سقّي مجالسنا علـى المشعوف ، حِلِّـين الوكا

إن هـدْ شامخ كـان في (دار الكوى) معنا ركا

حُكَى لمثلي عاد يوجـد مثل (ابو صالح) حُكَى

مات  الوفـاء  والود بعـده  والفطـانه  والذكا

يصف الشارع اللحجيّ ما يرى ويحس ، وكثيراً ما ينتزع صوره من محيطه الزراعي الخلّاب. يُشْرِك الطبيعة في أتراحه وفي أفراحه ، ويشكل من أشيائها ( بديلاً موضوعياً ):القمندان9

يا قلب ما لك بالهوى والفَنَق /  ليه بـس تعشق

تبات طول الليل مشقوق شق /   ساهر  معـلـق

ساهن رضى لما يبان الشفق /  تخـــز  وتنــذق

وعـادة المحبـوب ماشي حنق /  يلصي  ويحرق

ودمعــة العينيـن مثــل الودق / تجرى على حق

أنظر ، إن الحب عند اللحجي نارٌ آكلة ؛ نار تطلع من قعر الفؤاد لا من طرف اللسان. وتذوّق هذه الصور التي خلقها خيال خصب حلّق عالياً – وهل في الارض مَن يسمّي الحب حبّاً غير اللحجي:

أنا يا ناس عندي حب /  وحب الحب /  وحتى الموت

في الديوان اللحجي تجد صوراً ناطقة ، لا أشباه صور . صور تستوقفك وتستهويك لأن صاحبها قد حذق إبراز خطوطها ذوات المعاني، وأجاد تلوينها ، فأرانا جمالاً عجبا:

بذلح لك الغالي لما تقول لي بس / بمسي على بابك والبرد سعبوب

إنّه يشخّص الأشياء ، في حين يكتفي غيره بوصفها فتبقى كما هي :

       شلْ بُـنّك ودوّر ناس من غيرنا  /  إن كان شئ باتحصّل في الأوادم مواجي

الشاعر صالح نصيب3إنّ ضعيف شعره يغلب قوي غيره في الميدان. إذا طرق معنىً لغيره أمسى معه ذهباً خالصاً. لا يغير على الموتى ليسلبهم حرَّ الكلام، كما قال ابن الرومي في البحتري، بل هو مبدع في تناول الموروث. يبني على غرار اللحن لأنه أعجبه، ثم يخرج بذلك اللحن من موضعه الى موضوع آخر. والأجمل من ذلك أن يخرج معانٍ قديمةً متهرئة إلى دنيا التجدد والخلود كقول الفقيه مخرجاً " الفيد" من ميدان البغض والموت إلى بستان الحب والحياة:

   قال (بو فضل سالم) سبّتك يا مهيد / عدّمتني الفيد ذي قدني من العصر شوفه

   كَوْد (ابو بكر) با يحكـم عليّ بقيـــد /  يا لـَيد وش هَــم سالم لا تقضّــت شفوفه

   قال بوزيد لاشي تحسب القصـد صيد / ما هو من العَيْـد ذا غاني منقّش كفوفه

رضع الشاعر اللحجي لبناً وشهداً من تُبن؛ فجاء خفيف الصدر والعجز ، له ريحة المسك إذا عرق فعشقته الجميلات .. قال أبو عبدالمجيد:

سرى لهيف مع الليل سمره  /   مزكّن من بحين

سرى جعده نَفَش فوق ظهره  /  ولا هـو مستلين

لقد أُعطى الشاعر اللحجي حقلان يحرثهما: الحب والجمال ، وهذا هو يجاهد على الجبهتين

 ــــــــــــــــــــــــــــــــ

  كلمة ألقيت في إتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين بحوطة لحج في مارس 2006 ، ثم نشرت بجريدة (الثقافية)

 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

imageأغنية ( مليح يا زين ) كلمات ولحن: الأمير أحمد فضل القمندان  ، غناء: عبود زين 

imageأغنية ( يسقي المخرج وحيط لحسان) كلمات ولحن: الأمير عبدوه عبدالكريم ، غناء: فيصل علوي