من على خط الـ (MCC) ركل أحمد الجابري الكرة فخشيت يسراه أنديةُ المستعمرة .. سابق الجابري ظله فكان شاعراً مفلقاً في زمن صار فيه الشعر فناً له أصوله ومدارسه ؛ وزاحم الريح عدواً ، في زمن صار فيه العدو رياضة لا صعلكة .. وعلى عكس جرير جرى الجابري نحو مواقد الأهل وليس إلى قدورهم. رأى في جمالهم ناراً ، ولقي في خطاياهم حُسناً يبلُّ عروق القصيدة. قدم أحمد الجابري من زمن أدرك أدباؤه سرَّ العلاقة بين نضج التين والعنب وجلود أعداء أبي تمام التسعين ألفاً. هو ابن عدن، الصورة الأرضية للفردوس الأزلي..
طلع ابن الراهدة من (معلة عقربيم)..وشرب العدني من (حيق) الحسوة والعماد، ودخل إلى"دار السعادة" من باب (الحيق) في صيرة ، وأرسب في الأبدية هناك، والحاقة والقيامة بمعنىً .. والطريق إلى الجحيم من جنة الفردوس أقرب. هي مدينة الأعراف الفاصلة بين العدْن والسعير.. من عدن اشتق العدْن معناه ، واستعار الفردوس السماوي من (حافون ـ Heaven) دلالته ومغزاه. هنا (كريتر ـ Crater) نار نائمة ، وقبالتها يرقد الجحيم (هيل ــ Hell) جبلاً مسجوراً مسعورا.. ومن بعض حمأته يستمدّ (ابن الشيخة) أفكاره المتقدة. في عدن يناغي الخلد الجحيم ، ويتناغم النعيم والحميم.
وكانت عدن محتجىً طبيعياً لبنات الشراع ، وملتجأ لمن ضاقت بهم مناطقهم. وجاء إليها متفرّدون ومجهولون ومظلومون ومغبونون ، وطرّاد شريعة ، فوسعتهم أخت هابيل جميعهم.. ذاك (أمان) يشدو بالقاف الإنكليزي فيستوقف عذبُ القائه المارة البريطانيين ويوقف شعور جلودهم. وذلك (غانم) يوصل خيط الفن السري ما بين حمراء لحج والتواهي؛ ويعطي بالشعر تعريفاً للشعر يتخذه الناقد الإنكليزي درساً لأبناء جلدته. وهذا (الفاضل المقطري) ينظم أغنية عذبة تعجّى فهمها على (الرفاعي)، وتمنّعت على (المرشدي) فأجراها على “الجشايب”.
وهذا (الجابري) يتّبع خطى معلمه الرومانتيكية فيرسم من خيوط القمر حزناً رقيقاً غالياً. ولما اشتاق لتغيير المالح بالعذب الزلال حمل عدّة سمره ويمم صوب الخضيرة. ومن على سوم (الحسيني) ينادي الشاعرُ الشارحَ ثلاثاً فإذا لم يجبه حلّ له دخول البستان والأكل من ثماره ، والتقرّي بظلاله. وفرش الشاعر حصيرته على الحشائش فاستقبلته عصافير البستان: من (لِحْسان) يأتيه الحسّون مغرّداً مرحباً ، ويُسمعه حِجل لحج الدان اللحجي.. تقوقي القطا من حوله مترحمةً على ابن أبي ربيعة ، وتزمزم على رأسه الجداجد كابن المقفع ليلة إسلامه ـــ رحم الله ابن (عين قفع)..
رؤوس المحبة
يقول رينان الشاعر الفرنسي أن الشاعر العظيم يكلف الطبيعة من المواد الأولية ما لا تكلفه أعظم الحروب، فلابد من استهلاك ثلاثين أو أربعين مليوناً من شعوبنا الكثيفة الجماجم ليكون لنا شاعر من الطراز الأول.
إن الجمال كما عبر كيتس في انديميون (Endymion) هو مصدر طمأنينة دائمة لنا. فهو مثل مكان هادئ ننام فيه نوماً مملوءاً بالأحلام العذبة وبالصحة والتنفس الهادئ. يبحث الشعراء عن الجمال أيّان كان مصدره ، وهم تبّاعه الأقدمون المخلصون، وليس الجمال عندهم مقصوراً على الطبيعة ، ولا محصوراً في مفاصل الإنسان ، بل هو مبثوث في تفاصيل الأشياء والأفكار. فربما تجسد في الوضوح والبساطة وعنفوان المفردة، أو ربما احتوته صورة شاردة. قد يبرز عياناً في مشهد أو وردة أو في هيئة فكرة ، وقد يطل من خلال ركام فكرة متداعية ، كأن يكون صياح الديك ، في حضرة شهريار، هو الفاصل بين لحظتي الحياة والموت، المنتصر للجمال:
صاحَ ديكُ الفجر فينا، واعتلى / شهرزادٌ : مَنْ لليلِ الأنجمِ
وحديثٌ منكِ أنـــدى من يـدِ
رفّ بالشوق كأحلى موعـدِ
كلما قلتُ انتهى .. قِيلَ ازددِ
شهريــارٌ نـامَ ، لا خمرٌ ولا / في الهوى ساقٍ لصَبّ مُغرمِ
تستقيم عدن في عيون الجابري اللوزية على ثلاثة أقطاب كبيرة ليس من بينها (حكيم حافون). أولهم أستاذنا عبدالله فاضل، قطب المعرفة الصافي ورأس النقد في عدن، صاحب ديوان ”دوّامة الهباء". وثانيهما لطفي جعفر أمان رأس الأدب وزعيم الرومانسية في اليمن. وثالثهم عميد الطرب أحمد قاسم. يقول في الأول:
عذبُ الحديث إذا ما جئتَ مجلسَه / يومــاً يحــدّثُ ، لا ريـثٌ ولا عجِلُ
يأبــى التذلّــل ، لا تلقــاه فــي نفـرٍ / إلا ويشمخُ ، في أعطافه ، زُحَلُ
أما أستاذه لطفي جعفر أمان فقال فيه:
لا زلــتُ أذكــرُ للأعشى قصيدته / بصوتكَ الغضُّ ، في إيقاعه جذلُ
تنسابُ من شفةٍ حرّى ، وحنجرةٍ / شــاوٍ مشلٍّ شلــول شلشلٌ شوِلُ
وقال في صديقه الفنان أحمد قاسم:
عرفته يافعـاً ، فـــي قلبه وترٌ / وفـي يديه نثَــارٌ من (صَبَـاً) غرِدِ
تحثُّ مهجتهُ ، إن هــزّهُ طربٌ / بين الأنـامل إذ تنسلُّ من كَبِد
إنه صانعٌ متأنّق. يفلح الجابري في النظم على وزن الدوبيت، رغم أن مقام هذا الفارسي في الشعر العربي الكلاسيكي ضئيل.ولا أحد يدري لماذا امتدح الشاعر أستاذه وصديقيه على غرار بحر صناجة العرب ؛ هل ليشير إليهم كطود تحطمت عنده قرون تيوس الجبل ، أم هو استحضار لا واعي لتلك الصورة التي خرج بها الأعشى عن المنكوبين في الحب؟!
كانت عدن روضة لكل الطيور المغردة حتى الغربان. وَسَعَت ألواناً مختلفة من الطرب والفرح. كان للهنود نايهم والمريدنجام ، وكان للصومال رقصهم والعصيان. كان للإنكليز ضربهم والجاز ، وكان للحجيين جذبهم والمكريب وطربهم البديع المسيطر. وقرفص المقطري وأبناء عمومته ، على ما بيدهم من مال وفير، متفرجين مستمعين ، فشرع الجابري وسعيد الشيباني وأحمد قاسم والمرشدي يبذرون في مالح عدن صوتهم فنبت أول أمره ضعيفاً سمجاً حدّ أن استنكره شيخنا الكبير ، ولكنه ما لبث أن ضرب عميقاً ليشكل نواة للون من الغناء جديد له رموزه ومتلقوه ، فكانت “الأغنية العدنية”.
أهل البـوّ
آمن الأقدمون أن كل الأشياء مركبة من الماء والهواء والنار والتراب، ومن إيمان الأقدمين ذاك اتّخذ الجابري أشياءه، وعليها نصب أقانيمه:الهوى، الماء/المطر، الطريق، والتراب، وفي كريتر عنصر الشيء الرابع:
الهوى مِعطفي ، وشعري رذاذٌ / وطريقي المدى ، تساوى الثلاثة
هكـــذا تستقيم ، عندي ، وتبقى / دورةٌ للجمـــال ، لا للغثـــاثة
ما عرفتُ الغمـــوضَ إلا قنـاعاً / تختفــي تحتــه رمــوزُ الحــداثة
ابحــروا .. فالمــدى سفينة صيدٍ / واحرثوا البحر، يا لطيب الحراثة
هوذا في "المعادلة الصعبة" يحدد معتقده الأدبي، ويعلن عن اقانيمه الثلاثة: الهوى والشعر والطريق، وهو هنا يشير من بعيد إلى المصطلح الإليوتي"المعادل الموضوعي" أي"التعبير غير المباشر بالصور" وهو ما قد سبق إليوت إليه الشاعر العربي إذ وضع المعادل حتى في البيت الواحد ؛ بل ما فاتت الإستعاضه عن حقائق الواقع ببعض الصور حتى شاعرنا العامي ..
دورة الجمال الجابرية ثلاثية ، وهو في ذلك يختلف عن أحمد شوقي الذي ادعى أن فيه اربعة فصول. وهو يرفض الإنقطاع عن الماضي بل يعدّ العودة إلى الماضي مكرمة وليس خيانة كما يذهب الوجوديون والأدونيسيون؛ فالخروج من شكل الواقع اليومي الفاسد لا يكون بالانتفاض على إطار القصيدة الموروثة أو الخروج على قافيتها ، ولا من خلال الجنوح نحو الهلوسة المقدسة. إنّ شخصية القصيدة الحديثة تقوم على الشرب من نبع الموروث الثر ، وتتوكأ على ثقافة عميقة مستقاة من النبع الأصلي وليس عبر الوسائط وإلا صار الأمر حرثاً في المالح.
يحاول شاعر الحديث أن يعبر عن نفسه باعتباره ابن حضارة غاية في التعقيد والتنوع ، فيصبح أكثر تركيزاً وإيحاء حتى لقد يصيب اللغة منه بعض الأذى كما عبر إيليوت. والتمرد على اللغة والتحرر من أصفاد نحوها وصرفها ومن ركام الآخرين على مفرداتها امر تفرضه امور كثيرة منها قيام الشعر الحديث على الصورة وعلى التحليل النفسي ورسم الشخصيات بخطوط ابعد من سماتها الخارجية .. وفي هكذا فعل ما يحمل الكثير من الناس على عدم قبوله، فالقارئ لا يرضى أن يكون التجريب على ذائقته.
يمر بك الشعراء اليوم وتنظرفي موسيقى شعرهم المحدث فتجد رحى تطحن قروناً على حد تعبير أبي العلاء في نقده لشعر ابن هانئ الأندلسي. إنها خليط عجيب من موسيقى رفض أفريقية، وموسيقى معارك ثورية، وموسيقى أنين حسي في محل الوجع الإنساني لاتربطهما آصرة..وتنظر في معانيهم فتجد جِدّة أبهتها اللت واللف والدوران، إذ هي صيغت في لغة لا تتعدى مفرداتها المائتين، وتقتفي صورهم، والقافية منكورة ، فلا تظفر بجديد ، واحسن الصور مستورد ساءت ترجمته ؛ والمحزن أن ألف المرء قبحه وقبح من يخالطهم فصحّ فيه قول المتنبي في ذلك العبد الآبق:
وإنك لا تدري ألونك أسودٌ / من الجهل ، أم قد صار أبيض صافيا
لم تستكمل القصيدة المعاصرة عناصرها الرئيسية بعد، وما يزال الشاعر يجاهد لمعرفة أسرار قصيدة الحر التي من شروطها المعرفة لآداب العالم في لغاته الأصلية لأن الترجمة لا تجدي في القصيد، ولا يكون الشاعر معاصراً مالم تكن لديه معرفة وافية في علوم اللاهوت والأساطير والتاريخ الإنساني ، ويكون لديه إلمام كاف بالنظريات اللغوية والمدارس الأدبية والنفسية، وما إلى ذلك من علوم ؛ فالقصيدة اليوم ترتقي بفكر المتلقي وتؤثر في مشاعره وتصقلها ، وتاخذه رغماً عنه إلى عوالم ومفاهيم إنسانية لا عهد له بها من قبل.
كانت القافية بضاعة عربية ، عرفها الغرب فأعجبته فحلت في شعوره وشعره إلى اليوم. ونحن نريد أن يلقّح شعرنا بدم جديد ، ولا ضير كما قال شيخ الأدباء من أن "نلبسه حللاً جديدة من دون أن نطمس ملامحه أو نخفي عروقه الأصلية التي تمتاز به كل أمة عن غيرها" ؛ قلت وإلا بدا "المحدث" المزهوّ بحداثته كذاك الأمير اللحجي الذي قال فيه هوليفرتز " يزهو بحذائه أكثر من افتخاره بمدفعه". إن الجنوح إلى لغة الإيحاء والرمز امر مستحب ، بل حتى الإيحاء المبهم مستملح ، ولكن هكذا انتقال يتطلب تكافؤاً ثقافياً بين "الفعل" باعتباره التابوت المركزي الموحد في القصيدة. نريد أن لا يلقي الشاعر بقارئه في أشداق حوت يونان، ولا بين أنياب طاهش الحوبان؛ فليست للقارئ قدرة الولوج إلى ميثولوجيا اليونان، ولا ينفع معه في الثانية بركة الولي سفيان. إنّ شعراً محشواً بالألغاز والأحاجي لهو كالبوّ ، تحبو عليه الأمة منخدعة ولكنها لا تدُر.
في إطار تحدّيه لقصيدة التفعيلة ينظم الجابري على الموشح في موضوعات اجتماعية وفلسفية لم يتضمنها الموشح من قبل ، وهو الذي تدور موضوعاته أساساً على الغزل ووصف الطبيعة ووصف الخمر؛ ويرمي الجابري من وراء ذلك إلى أن العيب ليس في شكل القصيدة بل في ناظمها. ويمثل التشكيل عند أحمد الجابري جزءاً رئيسياً من معنى القصيدة ، وكذلك تفعل علامات الترقيم؛ وعلى ذلك فالقصيدة الجابرية ، في أي شكلٍ نظمت ، تستكمل معناها وتبلغ مقصدها بالقراءة الجهرية ، حيث يخلق الصوت الجو النفسي المطلوب.
صديق المرأة وحبيبها
لقد آلم الجابري الشاعر وضع المرأة في بلاده ، وأدرك باكراً أن لا نهضة لأمة بغير نصفها الجميل. تبقى شهرزاد الفاتنة الفطنة رمزاً للأنثى التي يريدها الجابري لنفسه ، وقد أرادها أن تكون لمجتمعه الذكوري الناقص متعلمة حرة، ونادى بتحريرها مذ كان طالباً بكلية التجارة بالقاهرة:
لا تخجلــي ودعي الخمــار دعيه لا تتصنّعي
تتحدثين عن الهوى ، ما أنت إن لم تصنعي
فالحب أن أدعــوك جهــراً كي ترين توجّعي
يغفو علـــى عيني ويصحو مرّة فــي مدمعي
وكادت أن تلحق بصاحبنا لعنة الشعر كالتي لحقت بسحيم بني الحسحاس يوم أدخل العالم إلى بيت اللغة. الجابري صديق المرأة وحبيبها ، وهو عفيف في خطاب غرامه وليس في شعره لفظة يُستحى منها. إنه فارس "مذحجي":
أوقدي المصباح ليلى قد صَبَا / لهــواكِ فــارسٌ مـن مَذحــجِ
راعــهُ الحُسـنُ بعينيـــكِ فمـا
ذاقَ طعمَ النوم في ليل الحمى
آهِ مـــن ليلــى .. وآهٍ منهما
كــم قتيــلٍ للهــوى يــا للضّبا / حاذري يا خيلُ شدّي واسرجي
إن المكتوب عليهنّ "جرّ الذيول" لا القتل والقتال ـ كما قال ابن اللحجية ـ قد غدون عند الجابري موضوعاً للقتل الحلال اللذيذ . يقول على لسان شهريار:
ما قتلتُ النساءَ إلا ليبقى / للهوى عاشقٌ ولي شهرزادُ
جميل حديث شهرزاد السخي المقارن بيد الشاعر المبسوطة ندى "وحديث منك اندى من يد"، وإذا كان الحياء قد حمل أحمد الجابري على الإستعاضة عن ياء "يدي" بالكسرة فإني هنا أثبتها ، ولي على قولي شهيد: قول (علي محلتي) في مدحية مطولة للجابري:
لإنْ خُيــِّــرَ العـــزّ نــدّاً له / لكنتـُـمْ له أحمــد الجـــابري
لَكَم أنت تعطـي ولــو لم يَصُن / عطاءكَ مكرُ الغنــيْ التــاجرِ
غِنى النفس عندكَ معنى الغنى / ومعنى السماحة فــي القادرِ
وما العــزُّ إلّاكَ فــي طُهـــره / وما أنت إلّاهُ يـا جــابري
ينام الجابري عن شوارد الأشعار في حين يسهر غيره "على القات المبرّح والمداعة" بحثاً عن صورة أو فكرة ، وإني لا أرى (أبا عصام) راكضاً وراء المفردة والقافية ليغصبها على الجلوس بل هي تواتيه منقادة طائعة ، والفضل لعيني عدن"قصيدة ومدينة":
بعينيكِ كــان الهوى يرتمي / ويمتـدّ بالبحــر طلــق اليدين
وكنت لنا الشطّ حيث الرؤى / عليها بقــايا خطــى نجمتين
ألـوّنُ بالرمــل وجه المــدى / وأبني قصوراً بلون اللجين
فأحلمُ بالشكلِ والمحتوى / كـــأني أعيشُ الهـــوى مرّتين
إني أحس بمقدار قهر الشاعر وارى عبرته في هذا الكسر في صدر البيت الأخير الذي يتطلب وقفاً بعد الشكل .. وهذه البكائية عندي أفضل من كل ذلك الذي "حُبِّر" في "حب عدن".
تسري قصيدة الجابري في الناس بالمحبة والسلام ، في حين نرى قصائد بعضهم كوجه (ابن عطية) الذي نصح به دعبل المعتصم. وقافية الجابرية عدنية حاسرة متميزة ، وشعره ذكي الرائحة وله طعم احلى من طعم الشعر إذا ما قُرء الشعر. إنه يشبه شعر أمين نخلة اللبناني الذي قال فيه شوقي:
كأنّ شعر أمين / من نفح بانٍ ورند
و"طائر المنفى" كثير الإعتداد بنفسه ، و "أناه" لا تختلف كثيراً عن "أنا" مجنون نورا شاعر الحب العظيم ؛ فالبحر نفس البحر وإن كان في الحمولة وفي المسرى اختلاف:
In wintery midnight, o’er a stormy main
A ship I, laden with oblivion, go
لا يقدر الجابري أن ينكر وجوده ، وهو لا يتنازل عن " نا " حتى تخرج عصا شداد بن عاد من رمل العماد:
أنا للهــوى بحرٌ وقلبي زورقٌ / ويداي مجدافان، من ذا أعشق؟
فالليل لي ، كم حنّ فيه مفارقٌ / وتحـدّثت عنـــه الفــراتُ وجُلّـقُ
كلُّ النجـــوم تجمعـت فــي ليلةٍ / حنّـت إلـــيَّ ، وللحنيـــنِ تـدفّـقُ
ألقت على صدري قلادةَ جيدها / فتغامزتْ وردٌ ، وغـارت زنـبقُ
ومردّ ذلك الإعتداد في اعتقادي إلى أصله الكريم ، وعمق ثقافته ، وثقته بنفسه. وفيه عروبية متنبئية أوحت بها إليه مصر عبدالناصر؛ فهو يأبى السجود حتى بمعناه الصغير، أي ما يفعله الشعراء للأمراء. فإن قال أبو الطيب للأمير بدر:
طلبنا رضاه بترك الذي / رضينا له فتركنا السجودا
فقد افتقد الجابري لمثل كياسة أبي الطيب ــ وكلاهما عدوّه دهره ــ ولكن كانت له رنة حزن معتق حملتها النونات المبثوثة في حشا الأبيات:
وطني ... من سواك؟ يحنـو عليّ / إن قسا الدهرُ، وانزوى الناس عنّي
عشتُ عمري "عزيز نفس"وإنّي / لا أرى فــي النفــاقِ غيــر التـــدنّي
وعلى ما في شكواه من مرارة إلا أنها صادرة عن شاعر يعتز ببلاده ، وتفيض نفسه بالحماسة والإخلاص لوطنه كوالتر سكوت الإسكتلندي في قصيدة (Pateriot) ـــ ومات سكوت مديوناً بستين ألف جنيه.
مثل ( كـثيرعزة ) كُـشِـحَ جنب أحمد الجابري بالنار إذ أخذه الهلاس لشدّة عشقه لموطنه ــ قال الراوي: ومات كثيِّر وعكرمة مولى ابن عباس في يوم واحد .. فاجتمعت قريش في جنازة كثير، ولم يوجد لعكرمة من يحمله.
أغلى من القمر
عالم الجابري في ديوانه "أغلى من القمر" (صادر عام 1968 عن مطبعة السلام - عدن) ، نجوم وعبير وثمر؛ مساء وشذى وقمر؛ وإرهاق رومانسي بديع.
زمنه منصوب: أشم/أحب/احضن/اكون/أبوح/أحس/أقول.. يستدير للقمر كيفما استدار ، وفيه “لحجيانية” عجيبة حيث المقدرة على شم الشذى من العيون:
فإن اتيت في المساء
ياحبيبتي ..
أشم في عيونك الشذى
وينتهي الإرهاق، بعد أن
أكون مجهدا.
فاحضن النجوم والعبير والقمر
لأنني احب كل ما يحبه القمر.
هزج الشاعر في شبابه وأرجز، واندفع إلى الحياة اندفاعاً.. وإني اتخيله يرتعش صحة وعافية كهوجن المصارع العظيم.
عرف الجابري الحب وذاق حلاوته ومرارته. رآه وولجه ، وليس من سمع كمن رأى .. ولبلى الجابرية حضرية تركب القطار:
يعيش في مدينة من النضار
لا يسكن الخيام ، أو يهشّ
بالعصا قطيع شاته
وإنما يسير بالقطار
مودّعاً أحبابه ميلا ..
فهل أراك في انتظاري
أم أركب الخيلا؟
والذي يعنّ لي أن قصائد الديوان ليست من الشعر الحر وإن اتخذت شكله. ففيها القافية موحدة ، وللشاعر إحساس شديد بالنغمة وجرْسها ، "وإذا نُظر إلى الديوان بعين الوحدة العضوية تكشف وهم ترتيبها ووجدتها دقيقة في نظامها القافوي"ـــ على حد قول إحسان عباس في "أباريق" البياتي.
في " أغلى من القمر" نلقى فتى يتدفق دم الشباب الدافئ من بين عروق حروفه وشرايين موسيقاه ، ولا نقول معانيه لأنه لم يكسر قشرة الحب الحسي ليتوغل إلى الجوهر. وفي الديوان إثارات الرومانطيقيين العاطفية كالشعور بالوحدة والحزن الرقيق اللذين يكتنزهما القمر. ولا عجب إن نظم على تينك البحرين الشعريين فهو ابن عصر تلونت عهوده ، فكان أوله عهد شعر وحب وعلم وأدب تجلت صورته في ديوانه “أغلى من القمر”. وماج عهده الثاني واضطرب ، فكان عهد ثورات التحرر القومي والفكري ، ثم تهديم لكل قديم ، وقلاقل وفوضى طالت حتى الأخلاق. وهوذا يعيش معنا عهده الثالث فنشهده زاهداً شاكياً دهره إلى دهره ــ يحبو الجابري اليوم نحو السبعين ولا يزال له قلب أخضر:
جاوز الستين عمري ما ذوى ../ للهـوى قــلبٌ .. وللشعـر غــدُ
يحقّ لنا أن نفرح بهذا الشاعر الذي تزن ليسانسه (العادية) في التجارة ألف ألف من دكتوراتنا (الملونة). إنه شاعر من الطراز الأول ممن ينطبق عليهم قول رينان الشاعر الفرنسي: “ إن الشاعر العظيم يكلف الطبيعة من المواد الأولية ما لا تكلفه أعظم الحروب ، فلابد من استهلاك ثلاثين أو أربعين مليوناً من شعوبنا الكثيفة الجماجم ليكون لنا شاعر من الطراز الأول.”
هذه بعض عناصر جابرية مبعثرة ، وبعض من خطوط رئيسية لشخصية أحمد الجابري الشاعر ؛ وفي الشاعر قال أودن:
Listen to the poet’s voice اصغوا لصوت الشاعر
Harken to the sacred dreamer احجروا للحالم المقدس
كالطُّهريين (Puritans) ظعن أحمد الجابري بحثاً عن (heaven, the dearest country) ورجع الجابري من بلاد مكة إلى (معلة عقربيم) فلقي الظفاري وما وجد "حافونه"■
■ نشرت بجريدة (الثقافية) العدد (191) في 2003/5/15
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أغنية ( فراشة واعدت زهرة ) كلمات: عبده علي ياقوت ، لحن وغناء: فيصل علوي
أغنية ( على أمسيري ) كلمات الجابري، اللحن: تراث بدوي ، غناء: عبود زين
أغنية يا مركب البندر ــ أحمد قاسم (http://www.4shared.com/mp3/Uv9Z2Gke/___online.html)