دانات الدُمَيح الحِسَان
د. جمال
السيد
----------------------
صالح الدميح
رجل رقيق ، ذو روح مرحة ولسان أبيني حالي .. في ديوانه هذا دانات حلوة وأخرى مُرة، و"الدانة" قذيفة المدفع
المدمِّرة والدانة اللؤلؤة الفريدة، والدان لحن من الغناء عذب حزين. وفي الديوان أقوال
وهرج يسيل منه الحلا الأبيني سيلان حسّان "لا قد جاء ملان" .. وابن
الكود يسوقه بخته إلى حيث الكواد فإن لم يسعفه حظه على الأستقرار على رمال الوادي
الكبير الغربية فقد أرسب وأناخ في الشرقية في أكواد (المحلّة) .. بعد الحالي.
الشاعرية في نظم الدميح تقع في حلا المفردة
الأبينية، وفي خفّة عرض الفكره بروح أهل ساحل ابين :
قدش سوداء قدش نودا قدش مش تشبهي النسوان
ألا أبّـــــــاش يالســوداء ... عمى يعميش وام
الجان
لا حنــــــاء معش تنفـــع ، ولا نقشـة على
الصبعان
سار أبو قاسم على جمر السُّمر.. قعمز يكيل جمر
النار إلى (شُوريته) وما قال أح ، وسار على نار الغرام وصرّخ وطرّب:
مرّيت
جنبي وانا بالهمس كم طرّاب
ما عـاد
ليَّ مَجَــاب
قصدك
عرفته تِهـرّاب
سنين
مرّت معك يافاتني العيّاب
ما عاد
تحسب حساب
صبّحت بي فوق مِزْرَاب
إنّ في "الطراب" لذة الإطراب أيضاً، عاش الدميح. خرّب المحبوب جربة المحبة فذهب ماؤها وجفّت ولم يتبق بها غير الشوك والزرب الذي غدا فراشاً للشاعر المخدوع، فذهب يذرف الدموع حقيقة لا مجازاً ـ والدمع رأسمال اللحجي شاعراً وغير شاعر.
الدميح من أهل الدان المجيدين ، وقد جعل صالح هذا اللون وعاء لبث
شكواه وترديد آهاته وأناته، وسماع رجع مواجعه. يستحيل معه العشق إلى حالة جذب ،
ويهرع نحو جمر النار ليرزح عليه حافياً ، قدماً وذاكرة، هوذا يعلن عن غيابه التام
على صرح المحبة المُضني:
سنين صـابر
صَرَح عمري وانا اتكبّد
وحالـتي في نكـد
وانا مُضَيـع
ومَحّد
وفي دان (ابن هادي) ترى أبين قد انسكبت في لحج رملاً وماء وحلاوة وقناعة. تراهما قد تداخلتا إلى حدٍّ يتعسّر الفصل بينهما ، فينطبق على حالهما قول الشاعر أحمد السمبوق:
تطعفر علي السكر وقع وسط نيـس * وين الذي بخرج السكر من النيس ليّه؟
الأبيني ابن عم اللحجي ، وكلاهما قنوع إلاّ من الهوى والموسيقى. إذا جافاه المحبوب جنّ جنونه، وإذا وعده المحبوب وأخلف فقد السيطرة على مشاعره ، وذهب ثلثان من عقله. ليس له صبر.. هو شاعر شعبي غير مولع بالمطالعة بل بالسماع، لذلك هو حاضر الذهن، سريع البديهة، لغته مباشرة، وتصرفاته عفوية، وسجيّته صافية مرحة بنت بيئتها:
ما كان
ظنّي ضنيني يعتلي أزيد
وزاد
ركّب حـرد
في الهرج
زايد تشدّد
وأنت ترى معي بُعد هذا الشعر عن الكثافة التي تحملك على التفكير والتأمل والتفتيش، وجنوحه إلى الوضوح والبساطة بحيث نفهم المعنى والقصد معاً،
حاولت كم
أقنعه ، ليلي وانا أتودد
ما عاد
جـوّب ورد
قفّـل
عليَّ وبنّـد
تنمّ (أتودد) عن مقدار خضوع الشاعر بتوسلاته لمحبوبه القاسي. كما يستوقفنا هذا الترادف المتدرج للأفعال (جوّب) و(رد)، و(قفّل)و(بنّد)، والجواب غير الرد، والتقفيل غير التبنيد. ثم انظر كم حمّل الشاعر عبارة " ماعاد جوّب ورد" من أثقال، ثم ألقى عليها " قفّل علي وبنّد" فنهضت الشدات بفكرته نهوضاً عجيباً.
بحث الشاعر باحاشرة عن محلٍّ وقربى فلم يجد أطيب
من (آل الهِميس) في (المحلة) فقال مفتخراً:
قد كان (معوضه) قبيلي ما اخيره * واليــوم معوضه تمكن بالرياض
ما باخـذ الاّ من رجــال المجحفة * ولاّ المحلة ذي قَبَل ساكن عياض
وترك الشاعر صالح الدميح الكود والدرجاج، ونصب (مُهَنّده) في المحلة، وقال من هناك:
في سنّ
عشرين حبيته أنا من جد
وسبت
أهـل البلـد
بنيت
جنبه مهنّــد
الشعر هو قول أُحسن نظمه، ومعنى أُبدِع تصويره فعلق بالأذهان ، هو
خطرات .. فلتات تسري مع الدهر ويظل الناس يتداولونها ويتمثلون بها. وقد حبت ربة
الشعر صالح الدميح بدانات حلوة، منها هذه الدانة القذيفة المدفعية الثقيلة ،
الدانة الفريدة الغالية التي يتمناها شعراء رسميون:
مسْرع حبلتي
ومسرع ربنا فرّج
مسْرع طلعتي الدرج
في ذا الزواج
المحرجج
في ديوان صالح الدميح دانات شعرية قليلة رائعة وفيه حكي وهرج حالي من
حق أبين ، نظمٌ من (الكود) حالي ويشبع ؛ ولا غرو فهناك تصنع الأبينية كدرة الخبز وتضع
بداخلها قطعة الصيد وتخبزها بالموفى ثم تخديها حامية وحالية وتشبع .. " يا
بوي حلالي "..
ها أبوي ، تهارجني؟!
د. جمال السيد
دار الأمير سعد ــ عدن
31 مارس 2019