لآل محلتي في التاريخ ذكرٌ عاطر؛ سادوا الصحراء الممتدة من بلدة (الوهط) وحتى (عمران) على ساحل بحر الوزف، ومن (مضَاربة) حيث مضاربهم الأصلية في الصبيحة وحتى (المحلّة) بلدة (أبو الجوهرة) –ـ خاطره. ولخلف هؤلاء في تالي العصور وشائج محبة و"قربى" بـ(آل زين جعفر) أصحاب الوهط وسادتها ، سقاقفة وأوحاش. ولطالما صرّح عبيد محلتي شاعر لحج الكبير بولائه واتّباعه لهم باعتبارهم " أهل السلف اللي ذنبهم مغفور"، ولأنهم مراكب، والمركب مقدَّم على الهوري:
مسّـاكم الله بالخـير وا سـادة / واهل السلف واذي ذنبكم مغفور
انتوا مراكب سنجـار واسـادة / وانا كما الهوري بعــدكم مقطور
كل شيء يُوَرّث إلاّ العلم_ والشعر علم العرب، ولكن للقاعدة استثناء. فلقد توارث آل محلتي الشعر كابراً عن كابر، ونظموه رجالاَ ونساء، وتفاوتت قدراتهم في النظم . نظم عبيد محلتي الشعر فكان شاعر الفرسان، وحادي الركبان متى ركبوا أو "رَكَلوا". أمّه (فطيمة) وأخته (لول) قالتا الشعر. وابنته (نظرة) هي الأخرى شاعرة وولديه: (علي عبيد) و(مهدي عبيد) والد شاعرنا، نظما الشعر وأبدعا فيه.
ونعلم أن الشعر ما كان يوماً وقف ذرية حتى نجعل له قيماً، ولكن استمراراً للاستثناء فإن شاعرنا (علي مهدي) هو آخر ما تبقى من المحالتة الكبار نظماً، ومعرفةً، ونَفَسَاً تاريخياً. لقد حُشِدَت فيه سجايا المحالتة الكبار جميعهم. ولكم تنافس زعماء القبائل لاستضافت عبيد محلتي، ولكم تَرَابعوا للسَّير على أثره، وتمنى بعضهم أن يحل بينهم ضيفاً إن تعسّر بقاؤه جاراً؛ قال يحيى سعيد عاقل بلدة (جول يماني):
وامحلتي ليتك با تجس عندي / با أكّلك من ديري وحلاّوي
نشأ (علي) على ما كان تشرّبه من أبيه ، واستقاه من جده، فخرج فوق أبيه وجده، كما قال الجاحظ في وصف ابن أحد بخلائه. إنَّ به من خصال السلف الحسنة الكثير .. لذلك جعلناه قيّماً لشعر الدان اللحجي.
حكيم الغرام
المحلتي مشرّع غرام لحجي بلا منازع. إنه يعرف أن الغزل لغة الحب ، وأن الحب كما يقول شيخ الأدباء :"ملاك الحياة ، وُجد لحفظ النوع، وهو لا يفنى إلا بفناء الكون،وهو إذا شاخ مع الفرد فإن نواته لا تموت أبداً"، فتخصص في لغة الحب، ونذر روحه للعمل في سبيل أن تنتظم المحبة كلّ دار. وهذا (علي مهدي) يكرز في الناس بالمحبة ،ويبشّر العاشقين بحسن العاقبة:
السعادة وين وانته وين يا مُداري للهوى
ما بقلبك بان في العين أشعله حرُّ الجوى
أيش باقي من ذريعة / يا محرِّم للشريعة؟
المحلتي حكيم غرام آخر. إنه ينظم رغباته في سلك من الرزانة والوقار للإيقاع بالفريسة. يسَيِّرُ عبارته في ظلال ضمير الغائب على غرار حيلة صاحبة ابن اللحجية المخزومي:"فإن جئت فامنح طرف عينيك غيرنا.."
حب من حبّـك ووفّيـه العهود / لا تشفّي به العواذل والحسود
عيش له وحده تلطّف كن ودود -ــ يحرق وقود
باك تتهنّا وبأ عمرك سعــود / باك تسعدني معك حتى اللحود
مقصدي جنبك ولا برضى ردود -ــ هات القيود
وخبير الغرام الوهطي طويل النفس،بعيد الصبر. فإذا قال :
إنْ تغِبْ عنّي بعادك يجعلك في القلب حاضر / وان تصد قلبي عنادك يشفعك والقلـب عاذر
فابتعد أو صُدْ عادي * مهما يتعذب فؤادي / با انتظر بهنأ سُهادي وانت جنبي طيف سامر
فلا تخاله غير صادق في حبه، فما كان في بيت المحلتي كاذباً واحداً ؛ إنما صاحبنا رومانسي غير مستعجل. المحلتي إذا وافاه محبوبه اضطرب وارتبك واختلطت عليه الأوقات، و"تدالقت" الكلمات واهتزّ الميزان. وحين تحمى حديدة الوصال يتحاشى القول ويتلبّسَهُ حياءُ أهله الصبيحة :
إنْ تفَارقنا ضحى وقت الأصيل * كانت اللقيا وفي الوادي الظليل
يعتصرنا الشـوق فينا ما يزال
من غـرام الشوق كنـا نستقي * فرشنا من ورد روضتنا النقي
كم كسانا الله من ذاك الجمال
أنظر كيف أتى (أخو جمال) القصيدة بشوق عشق الشاعر. فلمّا لانت لعفريته بعدما سكن روعها، أطفأ السراج و(تجمّش) وذّرَاهَا كالحَفِي في الحرَّة ، وعلى أية حال فإنّ صاحبنا لا ينسى أن يقول الحمد لله :
ربنا نحن دعونا فاستجاب / قد وهبنا كل ما لذَّ وطاب / نحمدك يا ربنا يا ذا الجلال
المحلتي لحجي . ومتى سرى ندى عرف المعفّص من خضاب الزين، ليس للّحجي قدرة على المقاومة، ولا عجب فجدّنا (شيفا) . في الطريق إلى عدن، قعدت مخضبّة بجانب قيِّم الشعر فعصفت ريح (عفصها) بوجدانه:
ريحه سَرَت واستقرّت حيث يسري الدم
ورقّصـت قـلب هَمْ
مؤمن ويخشى جهنم
جاهد طافته لمقاومة تأثيرها فلمّا لم يفلح ألقى بروحه في بحر الإثم اللذيذ ، وقال مُبَرّراً متفلسفاً:
خمـر الفواكــــــه علينـا الله قــــد حـرّم / قليــــل أو كان جم / وكــل سكـران يأثم
وسكرة العفص مش بالشرب هيْ بالشم / مَنْ للنَّفَس قد كَتَم / قاتل لنفسه مُجَرَّم
يارب عفـوك ونا أدعــــــوك أن ترحم / ومغفرة بعد هَم / فهمت أو كنت ما افهم
بين الدان والرَّكْلَة
جلّ الشعر المحلتي اجتماعي يعنى بهموم الناس ومشاكلهم ومشاغلهم ، وهذا مبنيٌّ على وزن (الرّكْلَة).والقليل الباقي منه نظمٌ في الحب والغرام بنيَ على وزن (الدان) اللحجي. وقد اشتهر في هذا الضرب وكاد يتخصّص فيه (علي عبيد محلتي) صاحب خنفر. وبهذا العم تأثر شاعرنا علي مهدي، فجعل جلّ نظمه في شكل الدان الذي يستقيم على ثلاثة أشطار. وقد عرفنا الدان اللحجي شكلاً شعرياً لموضوع الغرام؛ للشكوى من هجر المحبوب أو لبكاء فراقه، كما في شكيّة علي مهدي من محبوبه:
مَن حبّ مثلي يظل خسـران مـا يربح / مجروح قلبي انجرح /
حبّيت أبكــــــم تفصّح
متعـــوب منّه وانا حيـران كم باشْـرح / كم صلّحه ما اصطلح /
وزاد عاده تِبَـــــرْدَح
وعشت محزون ساهِنْ يـوم بس أفرح / ما عشت لحظةْ فَرَح /
من آح لا آح لا أحْ
في شعر المحلتي غنائية عذبة. تسيل موسيقاه هادئة ناعمة من غير صخب ولا ضجيج. امتحنه أستاذه (أحمد الجابري) ببيت من الشعر ، فسلكت سجيّته نهج ممتحنها:
قد أكن غلطان من كلمة أجت سـاعة زعل
شوفني طيّب ، ولك يا خــــلّ في قلـبي مّحَل
ليـــه تتسرّع وتغضب وانته مثلك مــن غفر
كلّنـــــــا يغلـط وبِغـلَط واحنا في الآخر بشر
والغلط مرجوع
هذه خطوط عامة من شعر محلتي الثالث، لعل خلاصتها أن هذا الشاعر ليس ممن يستسلمون للذّات المحرمة، ولا ممن يتملكون الميراث العام ، بل هو ،كابني هارون، لا يستهلك اللحم خارج الطقس القرباني.
ستظل ركوبة محلتي " تِسْتَنْ " في موكب الشعر على وزن (الدان) و(الرّكْلَه) إلى ما شاء الله ، وليكن لنا منها هذا الحفيد المبدع الذي وحّد ما بين عطر القصيدة ولونها؛ فكان لنا شعراً مُغنّى، وكان زهراً منمنماً، وكان قيّماً لشعر الدان اللحجي. اللهم "هب ذمحلتم وبيتهو نعمتم ووفيم"، واجعل الفرح صفيّهُ، والسعدُ حليفهُ ،واحفظه من كل (شنأم ذي رحق وقرب)، آمين.
* نشرت بجريدة (الثقافية) العدد (132) في 7/3/2002م
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أغنية ( رقصة الركلة على الشّبابة / الناي) إيقاع صبيحي لحجي من شعر عبيد محلتي
أغنية ( مش بيدي ) كلمات : علي محلتي ، لحن: أمين غالب اللحجي ، غناء: بشير ناصر