شريط

1‏/10‏/2013

سواعِفُ الغرام

الشاعر والملحن عبدالله هادي سبيت اللحجيالصناعنة وبنو تبني هم أول من ذاق معنى الحياة الشاعرة من بعد خروجهم المظفر من "الكامِل" وعليه. إنتفضوا على قصائد  الحنتيت والكبريت والمصطكى ، وثاروا في وجه موالد الجذب والضلال ، فكان لهم فضل إخراج أخيهم اليمني من كامل الرقاد المتعفن إلى أنوار القمر والنيون ، وأضواء العشق والسمر الحلال. دعوهُ إلى حلال الحب والحياة فاستجاب ، واستبدل ببياض  كيس النوم المُزَيَّت بالوباء ، والمُنَيَّل بالظلام طلْق الحرية وانطلاق النور وبياض الكفوف والخدود.

استبدلوا حزام الرصاص المطوق لخاصرته بوشاح النسيب ، وأمطروه بوابل من زنابق الربيع: أغانٍ عذبة ، وخواطر غرامية ، ومحاورات مع الأزهار والأطيار ، ودعوه إلى إهتبال الفرصة السانحة. نثروا فوق هامته الورد والريحان ، فولجَ معهم مدنية الإنسان، سيداً على الذات ، حرّاً مستقلاً ، متبوعاً لا تابعاً.

تجرأوا وما جددّوا. استجرّوا طباع الأسلاف الشعرية وساروا على خطى أصول شعر الغزل العربي الموروثة المعروفة، ووقفوا على أهمها: صدق العاطفة ، ونزاهة الموقف ، وبراءة الجرأة. آمنوا أن الحب سنة الحياة من قبل (جُرهم) ، وأن الخروج من ضلالات القرون كالخروج من ظلمات البطون ، بالمحبة والعمل الجريء والإيمان يكون. والمحبة عمادها القلب والوجدان ، والشعر لها ترجمان ؛ فكانت لهم فلذات مشكورة ، وسقطات معذورة وأخرى منكورة ــ والكمال لصاحب الكمال جلّت قدرته.

صورة متخيلة للشاعر يحي عمر اليافعي بريشة عبدالقادر السعدي2كره اليمنيّ ، شاعراً وغير شاعر ، السفحَ والطين ، ولَزَم رأس الحجر ، فجاء رأسه يابساً ناشِفَاً كمحيطه. حملَه المنطق القبلي على حفر كُوَّةٍ في الصخر ، وجعلَ لها مِشكاة ضيِّقة يقدر من خلالها أن يصرع أخيه ، عدواناً أو ردّاً للعدوان ، برصاصة أو ثنتين ؛ فكان بعيداً من أهل الغاب بفرسخين ! ولما كان الشاعر رسول أخلاق وأستاذ تربية ، المشرِّع المجهول للمجتمع ، وصوت الأمة الناطق ، فإنه لم يستسلم للعقل المحيط - وإن ظلَّ واحداً من عناصره . وزاد ، نُشداناً للحرية ، أن سامر صقور الجو وصاحب سـواعف الليل ونظر من علِ فبانت له الأمور على حقيقتها. ولأن الشجاعة سمة فرضها الظرف المعاش فقد كان الشاعر في مُقَدَّم الشجعان. وإذا كان للرصاص ودويِّه حضور في حياة القوم وفي أفراحهم ومسامراتهم ، فقد كان له أثر فاعل في شعر الشعراء ، نسيبهم وتشبيبهم ؛ وما اختلف شاعر عن شاعر إلاّ بمقدار.

استجابة للظرف المحيط كان الشعراء جميعهم شجعاناً ، ولكنَّ نفر منهم كانوا متمردين ـــ والتمرّد في الشاعر سمة خير وبركة ، شرط أن لا تخدش الحياء العام. هوذا اليافعي يحيى عمر، كأضرابه من المتمردين ، شاجع حتى في الهوى. يطرق طلباً للمعشوق ويرى في ذلك بطولة ورجولة ، ولا بدع إن افتخر بذلك فطريق الغرام قد عبّدها الأجداد "الموالعة". سما الجاهلي إلى صاحبته بعدما نام أهلها، و"تجَشَّمَ الأمويُّ السُّرى بليلة ذي دوران، واليافعي سليل أولئك ، و.."طريق الجد مدحوقة":  الزي اليافعي

يحيى عمر قـــــال والله ما دريت / أن الهــوى هكـذا يفعل معي

والله لو كنت أدري مــا اهتريتْ / إنّي مع العشق شاعر شاجعِ

ولا عادْ في بـــاحة العشقة دَوَيتْ / ولا تَسَمَّـيتْ يحيــى اليافعي

وفي الليالي الظليمة كـــم سَريتْ / معَ نـسور الهواء والسافعِ

بلى، ليس اليافعي أوَّل من سرى عاشقاً ، بل هو سائر في طريق الغرام التي سنها أبو الشعر العربي. دخل الجدُّ المؤسس خدرَ (عُنيزة) ، وقلَّده الأبناء فتسلَّل المخزومي إلى خباء (نُعم) ، وتدلَّى الفرزدق لصاحبته من ثمانين قامة ، وتبعهم الحفيد (الجمالي) فدخل حجرة الهندية و" شلّ الدان " في حُجرها :

قلت أشرِفْ / هًيا تفضّل واعطِفْ / لا تقلِفْ / أنْزُلْ ليحيى واطرِفْ / ذا المُدْنَفْ / هــــايم بحبك وحدي

قال لي ناه / ولا اعترف لي معناه / يا غُبْنَاه / كم ذا يعذّب مضناه / كيف اشناه / ومسكنه فــي كبدي

يـا بـاباه / نفسي لك الجلابه / مُصْطَـــابه / لو كـان هـي مِضْـرَابه / منها بـاه / كَوْنْ الزَمَكْ في إيدي

قـــــال اسمع / صاحب شَلَوُهْ قوم اطلَعْ / لا تمنع / من العرب لا تفزع / لا تفجع / هذي بلاد الهندي

المغامرة والمخاطرة أهم شروط العشق ، والليل حليف الشاعر الولهان ، وستار المغامر ودثاره. وقد سرى هذا الأثر حتى بلغنا. قال العبدلي : 

       سرى العاشق سرى يِدْكَعْ ويِدْرَمْ / على راس الحنش يدعس ونابه

إنَّ اليافعي – باعترافه - مولعيّ كبير. هو لا يقوى على مقاومة الجمال؛ ولذلك فإنه لا يَنزِعُ بفزّاعات الأعراف ، ولا يرعوي للتقاليد. إذا رأى مليحة قدّم إليها طلبه، هكذا:

المحجبة ـ يافع2يا فـائق الغيــــــــد يا (مُلكَمْ) /  كفـاك يــا سـاجــي المقـلة 

قتلت  يحيى  بطــــــرف أحـوم /  من كثـرة الطَّلْـع والنزلة

أربع قُبَـل هاتهــــــــــا ، واسلَم /  بـادِرْ بهـا سـاعة الغفلة

وان زدتنـــي واحــدة فـــي الفم /  تحسب لكم عنـدنا جملة

ــــ " أنا أم زيد"، صاحت اليافعية:

        جوَّب علي:حـرام الدم /   ما نلت من عندنا خصْلَة

        ولا تعَــــدّيت لــي معقم /  ما يدخـل الدار غير اهله

إنّ روح أبي معجب بديعة في تمردها، حلوة وطرية ومرحة. ترى أسنان صاحبها فتبتسم فرحاً ، فلا جفاف ولا عبوس __ ياليت في أدباء اليمن من يدلنا على (ملكم) هذه وله منّا البشارة. لكن لم يكن للكوكباني الصتعاني 1صنعاء القديمةتمّرد اليافعي، وإن كانت له مثل شجاعته :

لقيت في المسقى قدا المحلّه / في مـورد المـاء لـي لَقِي

فقلت  له  عِرْني  سُقــــــــاك لله / إنـي ظـويمي شاستقـي

رمــى  السُّقا لـي وَرَنا  بنظرة / بالمـوت صارمهـا سُـقي

وقــال  لا  تحبِس  فشــــــانزلّه / زلًّ الرفـاق ما حّـد بقي

لجأ الكوكباني الى المواربة والمواراة والاحتماء بسر المفردة المكنون خوفاً على رأسه ، وانصياعاً للعرف السائد والعقل المحيط. ومكنته مقدرته اللغوية من التملّص. وإلى جانب هذا المظهر الاجتماعي لـ( تأسليّة ) مبررة ، نجد مظهرها الفني الآخر متجسداً عند كلا الشاعرين ؛ وذلك في اتباع أسلوب الحوار بين الشاعر وصاحبته ، وجنوح الحوار الى لغة خطابية مباشرة لتشخيص الانفعالات الجسدية التي يشعر بها العاشقان ، وتفكير كلّ منهما تبعاً لجنسه. وإذا كان مردُّ انغماس الشاعرين في هذه الردة الوراثية (باجترار تصرفات السلف الشاعر) الى العقلية المحيطة، وهو أمر مبررغير مبرور ، فإن النصين يكشفان عن موقف متقدم للمرأة مقارنة بالنصوص السابقة عليهما حكمية وعامية، جاهلية وأموية، حيث لا تقف المرأة صامتةً حيال ما تسمع من تشبيب أو ترغيب من عاشقها ، وإن أظهرت مثل ذلك الحياء المتعارف عليه عند أختها الأموية صاحبة العَرْجي ، كما لا تبدي دعارةً كصاحبة أبن أبي ربيعة التي أمّرته على نفسها وأعطته حاجته ، بل هي تصرّح برغبتها للوصال الحلال: "ما شا تجيني شي حرام".

أطلق الهيمان لزلته العنان ، ورمى شباكه مؤَمِّلاً في صيدٍ ثمين ، ولكن الغزالة هزَّت له جسمها في استثارة تهديدية:

        فهزَّ عَسَّال القوام / وقال ما شا ذا الكلام / ما شاتجيني شي حرام

حاولت بنت المحلة الانتفاض على السجن الكوكباني ولسان حالها يقول متى كان إجتراح فعل الشيطان من الإيمان .. وأطلقت تحذيراً ثانِ: لباس صنعاني

        فقال طال حبسك وطال مزاحكْ  /  وانا معك ما شا المِزاح

        إنْ كــان معانا شا يكون رواحكْ /  رَوِّحْ فــذا وقت المرَاحْ

عزَّ على العاشق أن يعود بسلته فارغة ، فأعاد الكرّة :

        فقلت أنا أول شالتَزِم وِشَاحكْ / وارشف طلا كاسه أقاحْ

قلَّ الشاعر حياه ، وجاوز حدود المزاح، فانتبهت "هند" المحلة واستلبت بسلاح الأعراب الأثير:"من ذَنَبه خناقه" ؛ فشدَّت حول عنقه الخناق ، وكاد أن يفطس:

      قال لي معكْ في ذا الكلام عِلَّه  /  كنت احسبكْ صالِحْ تَقي!

فقلت واظامي الوشاح /  تحْسِبْ قلوب اهل الصلاحْ / ما تعَشقْ الغيد الملاح

إنّ الكوكباني كابن اللحجية إمام الهوى المتبوع إثني عشر قرناً ، عارف لدينه يستثمره حين يضطر. أما رأيت كيف دعا اليافعي لصاحبته بالسُّقيا:"الله يسقيك من زمزم / شربه هني ما بها نهله". إنَّ الكوكباني كأستاذه عمر حجّة في الأدب وحجة في لغة العرب ، وكلاهما صيّاد ماهر. سأل المخزومي (هند) من أنت فأجابته:

        نحنُ أهل الخيف من أهلِ مِنىً /  ما  لِمقتــول  قتلناه  قَــوَد image

        قلتُ: أهـــــــــــلاً  أنتمُ  بُغيتنـا /  فتَسَمّينَ ، فقالت: أنا هند

فأجابها الأستاذ الخبير:

                    إنما أهلك جيـرانٌ لنا / إنَّما نحنُ وهم شيءٌ أَحَد

وسأل الكوكباني بنت المحلَّة بمثل سؤال المعلم . ويكاد يقع الحافر على الحافر ؛ فمعاني عمر في الغزل وطريقته القصصية قد سرى أثرها في كلّ الغَزِلين حتى الساعة. قال الصنعاني:

فقلت  بالأوجــــان  ذي  النديّة  /  أيـن مسكنك ، وانت لِمَن؟

قال نسبتي في الحُسن يوسفية  /  وارض الـمحرّقْ لي وَطَنْ

فقلت شــــربه  من  يديك  هنيّة /  وأمَلِّكـَــــــكْ روحــي ثمَـن

وشاخدِمَك  وآتيْ حِمَــــاكْ أحِلَّه /  مَن حـــــل فيكــم ما شقي

وأخالك مثلي ترى في جواب عمر "إنما نحن وهم شيءٌ أحد" ذات معنى الصنعاني"من حلَّ فيكم ما شقي". والمعشوقتان تلتقيان في تقبّلهما للمزاح ، ولديهما لباقة وحُسن منطق رغم اختلافهما في المكانة الاجتماعية وفي العصر.كانت (هند) أرستوقراطية متعلمة ، وأما "المحلية" فريفيّة أميّة، وإبنة مجتمع زِمِّيت. كما تلتقيان في إبتغائهما للعشق الحلال وإن اختلفت طريقة كل منهما في طلبه. انتهجت هند سبيل الشيطان "فرَزَعَت" بعُمَر وسحَّرت له بعد أن سحرته ، أما المحلية فلم تكن لها كياسة (هند) فاكتفت بالرواح. أوجعت الكوكبانية عاشقها فأتبع توشيحه بتقفيل يؤكد حلالية العشق لأهل التقى والصلاح وأنهم أكثر من غيرهم إحساساً به وتقديراً له :

       كم من تقي يازِينة الأشِلَّةْ / ويـا سَحــــور المنطـقِ

       يطيش عقله ويعيش مُوَلَّه / حين تنطقي أو ترمقي

لقد استحال اللهو عند الشاعر إلى جدِّ الجَد ، وانحشر في زاوية التقليدية الوصفية الجسمانية. ذهب يفصِّل مفاتن المعشوقة في نغميّة عالية الترديد تقطر لوعة وتوسُّلاً ، ساكباً ما كان قد أُسقِيه من ماء عرَقاً مُرَّاً، ودمعاً جامداً ينعي الرجولة المجروحة ؛ لِنشهد بذلك تأسليّة شعرية أخرى تبدّى مظهرها الاجتماعي في إكبار الرجل الشرقي للمحصنات وكرهه للمبتذلات. غدا اللهو عشقاً صادقاً ، وانسحب العاشق على ذيل الحكمة الأحوصية : " أحبُّ شيءٍ إلى الإنسان ما مُنعا " . إرتدع ، وأُجبِرَ على الإذعان مبتهِلاً إلى الله أن يلاقيه بمعشوقته بالحلال المُباح: صنعاء بريشة عبد اللطيف الحكيمي2

عِتقي التزامكْ في العناق / وأحلْ طوقك والنطاق / والثم فمك حالي المذاق
واشتم ماورد الخَفَر بقبلة / من وجنتيك حين تَعرقي
ونلتقي داخـــــــلْ خِبا وكِلَّه / قــريب علـى الله نلتقي

إن للهوى أثر قاتل، وله شروط وقوانين عجيبة ، ولأهل الهوى سقطات وفلتات غريبة ؛ ويصدق في الفقيه الصنعاني قول العبدلي:      

عَسَفْ حكمْ الهوى كم مِن مُعَمّم /  وعكَّرْ بالأطبـاء من حَنَابه

وهوى الشعراء لا يشبه هوى الناس. الشعراء هم تُبَّاع الغرام وأتباعه ، وهم تُبّاع الجمال أيان رأوه أو سمعوا به. يلتمسونه إسكاتاً لرغبة متأجِّجة ، أو إرضاء لغرور الذكورة ، أو كيداً لمنافسٍ أو حسود. إذا عدِم الشاعر الحبَّ كلَّه تاه في وديان الهيام والجنون ، وإن خسر بعضاً منه عزَّى النفس بالقول:( إنِّي امرؤٌ مولَعٌ بالحُسنِ أتبعهُ / لا حظَّ لي فيه إلاّ لَذَّة النَّظَرِ) والقول"باشوف بالعين ما باشُلْ شي في ثَباني" هو حيلة الشاعر للإيقاع بالفريسة. ومتى أُعْطِيَ الشاعر مُناه استحال معه الهوى عادة ، وركَّ شعره ؛ إذ لا يخلق الشعر الصافي إلاّ الكبت والحرمان. تمنى المجنون أن يكون "عبد عبدٍ لعبدكم" ، وتنازل القومندان عن السموّ العبدلي " با شُلَّك على عاتقي" وارتضى الكوكباني " خدي لأقدامك يقي" ، أما الشاعر اللحجي[1] فقد تنازعته رغبتان : الانصياع لنداء حجّالات المعشوقة المُقشقشة ، أو التخلي عنها انصياعاً للعرف السائد ؛ قال: 

        ألا شفته نشَر يلعب بحجله /  وانـــــا كلـّـي أُذونْ

        وقلبي قـال لي  بالله شـلّه /  وأيش ذي بــا يكون

        رجع قلبي يقول لي بس خَلّه / وانا هـوني يهون

أنظر كيف انتقل الشاعر من حاسة النظر إلى محبوبته وهي تمشي ممتلئة شباباً وحيوية في البيت الأول ، إلى حاسة السمع حيث غطَّت جلجلة خلاخيلها المكان ، جامعاً بين الحاستين في وحدة التأثير النفسي. وإذا كان الشعر الرمزي في تعريفه هو" نوع من الشعر يعبّر عن الحلولية التي توحِّد شتى العواطف في النفس البشرية ، كما أنها توحّد بين المشاهد الخارجية والأحوال النفسية " فإنَّ في شعر العاشق اللحجي أهم شروط الرمزية . لقد اتّحدت كل حواس الشاعر في حاسة واحدة فذهب يسمع بعينيه وبأذنيه وبباقي الحواس.

افتقر العاشق اللحجي لشجاعة الشيخ الصنعاني . تذلّل الأخير وانذل، وفرش في حلبة الغرام خده بساطاً يدوس عليه المحبوب ، ولم يأبه للفارق العلمي والاجتماعي :

        شافرِشْ خُديدي لك بكلِّ رملَه /  خــدّي لِأقدامكْ يقي

أما الشاعر اللحجي فقد بقي أسير العرف والتقليد يشكو عجزه عن تجاوز السائد ويندب حظه العاثر؛ ذائباً في نهر الغرام قلبه، ومذوباً عينيه في بحرٍ من الحلفان: 

         وهو يحلف وانا احلف زيد والله / يبأ يجيب لي الجنون

ينهض قسم الشاعر على إقامة الحجة على صدق محبته ، وتستوفي يمينه شروطها الشرعية صيغةً ونِيّة: "والله" ؛ فانعقدت اليمين وصار الحالف ملزماً بالأثر القانوني المترتب على حلفانه ، فلا تظنها يميناً غموساً كالتي لأبي زيد السروجي في مقامات الحريري. ولكن شتّان ما بين يمين العاشق ويمين معشوقته. فإن تناغمت الأيمان الصوادق مع الحلف بما يجلّه الحالف فقد كان قسم الشاعر صريحاً في صيغته، أما قسم معشوقته فلم يخرج عن الحلف بـ"عمر بن علي أو سفيان" – على عادة نساء لحج في حِلفهنَّ ، وهو يدور مع الكناية في موقع التأكيد لا القسم ؟!- إنه الفارق الطبقي.

ولكم كان الحالف في خبره صادقاً ، وفي عشقه جِدّياً ، ولكن فم (الكامل) محكم الربط ، والشاعر أضعف من أن يمزقه ؛ فأطلق النواح والعويل، ولطم على الخد وقرع على الصدر كالعجاوز البائسات ، وأسفح الدمع هتّان : image

        ألا كلّين خِلّــه عـــــاش ظلّه /  وانا كـم بــي شجون

        ويــا قلبــي شربت الحب كله /  وذوَّبـــت العيــــــون

        ولا تقول لي المحبه هي سهله / ومَن حَب ع شئون

        وبالهــون  الدواء من كل عِلّه / لـــذي هم يعشقون

        ينوح ابن الهوى يا قلب رجله / يقضّ النـاس أُمون

حاول العاشق اللحجي الخروج من الكامل والتمرّد على موروث العرف العتيق فلم يستطع ، فما تزال به بقايا من وثنية غرامية ؛ يدلنا عليها هذا التوحيد للنغم الخارجي ( في الألفاظ والحروف المنبعث من آهات الهاءات في "الصدور"، والأنّات في نونات القافية في الأعجاز) مع النغم الداخلي الذي تزفره نفس ملتاعة حائرة منشَطِرَة بين العشق الراغب والعرف الرافض.

غاب الشاعر في فضاء النواح ، وذهب يسوق الحجج مبَرِّراً عجزه عن إعطاء القلب مناه ، فشغلنا وقضَّ مضاجعنا. وإذا كنا نشكره جزاء المحاولة ، فإنَّ تقديرنا له واجب لأن قصيدته قد كشفت لنا مبلغ توطّن العرف وتأصله في الوجدان العام ، وتمكّنه حتى من الشعراء العظام ، وهم قادة الفكر في بيئاتهم . ذلك أنَّ الشاعر في ختام قصيدته لايقطع ولا يقرر بل يشكو ويستنجد:

وعنتر مـــــا يعيــــش إلاّ بعبلـه /  يكـون بِنْ مَن يكون

وكم مِن جِيدْ نسي أصله وفصله /  مع هـــــزّة جفـون

ففي قوله هذا نلمس اعتذار الشاعر ومحاولته نفض اللوم عن كاهله. وإذا كنا نقدر إقراره بأن الحياة لا تستقيم بغير عنتر وعبلة معاً ، فإنا نعيب عليه كيف فاته ، وهو الشاعر الفحل ، أنه كان على عنتر التضحية لاستمالة عبلة. لقد حاول عنترة تحويل بصر عبلة عن بشاعة منظره إلى رجولته وكرم أخلاقه ، ومن أجل الفوز برضاها تجشم عنترة الحروب وخاض الوغى ، وتدحرجت تحت أقدام جواده جماجم الأعداء كالفراخ الجُثم ؛ فكان ذلك العبد – كما قال شيخ الأدباء: "خير نموذج للأحرار ، وقد تسامى فرفع نفسه ورفع الناس معه ".

في الحب يغيب العقل وتبقى للقلب السيطرة وفصل الخطاب ، فليس أمام الحب سيد ولا عبد. لم يكن لإبن هادي سبيت شجاعة الصنعاني ، ولا جرأة اليافعي الشاعر، ولاحتى شجاعة ذلك اللحجي العاشق:حكى لي أحدهم أنَّ لحجياً إشتهى يهودية وغازلها ، فعمدت اليهودية إلى ملّتها واتخذت منها سبباً لإبعاد العاشق المسلم عنها فقالت له:" أني يهـودية يا سيدي !" فأجابها الولهان: " آآه ، اليهودية التي في البيت"■

 

_______________
[1]  وجدت هذه الأغنية في مخطوطة كتاب ألفه الشاعر عبدالله هادي سبيت بعنوان: “ أحمد فضل القمندان: شاعر وفنان” (الصفحة 16 الحلقة الخامسة تحت عنوان فرعي: من ألحان السابقين"). وقدمها كمثال على لحن إيقاع المركّح في الغناء اللحجي. والظاهر أن سبيت قد بناها على نفس لحن القمندان: "لقيت مضنون".

  نشرت بجريدة (الثقافية) العدد (145) في 6 يونيو 2002

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

imageأغنية ( لقيت في المسقى ) الكوكباني الصنعاني، اللحن: صنعاني، غناء: فيصل علوي

imageأغنية ( لقيت مضنون ) كلمات: عبدالله هادي سبيت ، لحن : تراث لحجي، غناء: عبود زين

أغنية (يحيى عمر شل الدان) كلمات: يحيى عمر اليافعي، اللحن: تراث يافعي، غناء: عبود زين