إذا رأيته يمشي خلته ذلك الماموث الذي قيل أنه يحبس النسوان في كهفه العتيق ، لا شاعراً شفافاً يهيم في وديان الغرام يخفُّ وزنه كلما أسرع وارتفع. وإذا جثم حسبت ليل النابغة قد ناء بكلكله. إنّ بين جثته وجثة ابن بُرد أقرب النسب ، غير أن هيئة العباسي قد أبعدت عنه الناس رجالاً ونساءً ، في حين قرّبت الدميحية من صاحبها الصبايا الحسان ، خضراً مُهَرّدات ، وبيضاً مخضّبات.
في لونه شَبَه من وصف أبي تمام لعمورية المحترقة :
ضـوءٌ من النار والظلماء عاكفة
وظلمةٌ من دخانٍ في ضُحىً شحِبِ
وفي جسمه الضخم جعل الرحمن رقة وشفافية وصفاء. روحٌ شاعرة متدفقة ، ونفس متّقدة تحرق وتحترق. إنّ به ظلمة في اللون وفي الحظ ، وهو في لونه جذاب آسر لقلوب الجميلات ، حتى لقلب تلك السوداء التي هجاها بقوله:
قدش سودا، قدش نودا / قدش مش تشبهي النسوان
ألا أبّــــاش يا الســــــودا / عمى يعميـش، وام الجان
لا حِنـّــــاء معــش تنفـع / ولا نقشه على الصبعـان
إذا اخترنا من شعراء الدان اللحجي شاعراً يُعتدّ به فلا أصلح من هذا الرجل، فياليت شعري لو كان لنا أكثر من دميح. ولكم أسعف هذا اللون هذا الشاعر؛ إذ وجده وعاء يصلح لبث شكواه وترديد آهاته وأناته ، وسماع رجع مواجعه. والدان ضرب من ضروب الأدب مثله مثل الزجل والقوما والعتابا والمواليا ، بل لعله يشكل الأساس لها جميعها. إنه أصل الغناء الثقيل عند العرب. ومن الدان اللحجي ما تركه لنا القومندان في بعض أغانيه وأقوال لعُبيد محلتي وورثته ، ونحفظ لعلي عبيد قوله :
محّد يُوَلِّف جمل زاحف على مَعْلَف
يفلّتــك في رَدَفْ
تصبح ضحية مُجفّف
وللدان اللحجي، كالحضرمي، قواعد في النظم مرعية ، وله شروط في الأداء صعبة؛ وفي ذلك قال الشاعر الحضرمي:( من يحب الدان يتعنّى/ له قواعد وله ميزان ). فمثلما يؤْثِرُ الشعراء تجنّب النظم على وزن الدان، يتحاشى المغنون أداءه لصعوبته ؛ إذ هو يتطلب حنجرة سليمة لا خدش بها. أما موضوعه فالبكاء والشكاء من هجر المحبوب واستعطافه، وإرسال تلك الشجون مع الطير الصارح الصادح حتى دُعيَ لون الدان اللحجي:" واطير"، وهي البادئة التي يُفتتح بها نص الدان. ويماثل الدان ( الكان وكان) في الوزن والموضوع ، وهو يشبه (الدوبيت) الفارسي وخاصة في نوعه الرابع المعروف بالرباعي المرفّل الذي يشترط في شطره الثاني أن يتركب من جزأين. وإذا كان الدوبيت يشترط أن يتركب هذين الجزأين من فعلن فعلن، فإن الدان اللحجي يشترط البناء على بحر البسيط.
في دان الدميح نجد شاعراً حرّقه الزين بنار الصد والهجران ، وأشعل فؤاده شوقاً ولوعة فيقضي ليله ونهاره يمرغ جسده في التراب أملاً في الانطفاء ، ولكن هيهات ؛ لأن الروح متى اشتعلت أشعلت معها الجسد ، ولا تنطفئ إلاّ بانطفائه. وحين يدرك الشاعر ذلك يستحيل معه العشق إلى حالة جذب ، ويهرع نحو جمر النار ليرزح عليه حافياً ، قدماً وذاكرة ، مطفئاً النار بالنار، في معادلة غرامية عجيبة. وهوذا يعلن عن غيابه التام على صرح المحبة المُضني:
سنين صـابر صَرَح عمري وانا اتكبّد
وحالـتي في نكـد
وانا مُضَيـع ومَحـّـد
إنه ليلذ للشاعر الإقرار بمقدار ما يلاقيه من هوان بسبب فعل المحبوب ، بل ويطيب له إعلان معاناته على الملأ ، ويكمن جمال الشاعر في مبلغ شقائه ونكده. ثم انظر كيف غيّب الهوى الشاعر حتى صار (مَحّد ـ personless). الدميح قنوع إلاّ من الهوى والموسيقى. إذا جافاه المحبوب جنّ جنونه ، وإذا وعده المحبوب وأخلف فقد السيطرة على مشاعره ، وذهب ثلثان من عقله. ليس له صبر ، وهو يفتقر إلى مثل كياسة ابن زيدون حيث الاقتناع من المحبوب بلحظ البصر، والرضاء بتسليمه المختصر. بل هو حتى لا يحذر من لحظات الرقيب ، فقد أعماه عشقه المتأجج وأنساه أن الهوى يُستَدام بالحذر. هذا صالح الدميح مجنون غرام لياليه لا تكتم سرّ الهوى :
وين الذي كان لا مرّيت جنب الباب
سريع يفـتي الجواب
ورمش في العين جذاب ؟
ويعقب هذا الاستفهام الاستنكاري تعجبٌّ واندهاش مبنّي على تحول في ضمير الخطاب من المجهول الى المعلوم ليدل على أن علاقة الأمس الأكيدة قد صارت اليوم في حكم الماضي المنسي، في تعملق دميحي لذيذ :
واليوم شفت الزعل هكّه بلا أسباب
قلبك تقنـع وتاب
بعد المودّة والإعجاب
ثم يشرع الشاعر في قطع الطريق على المحبوب بالتملص واختلاق الأعذار من خلال المقابلة بين لهفة الأمس وبين التغافل واللامبالاة التي يبديها المحبوب اليوم رغم مناداة الشاعر بالهمس المسموع:
مرّيت جنبي وانا بالهمس كم طرّاب
ما عـاد ليَّ مَجَــاب
قصدك عرفته تِهـرّاب
إنّ في "الطراب" لذة الإطراب أيضاً ، عاش الدميح. خرّب المحبوب (جِرْبَة) المحبة فذهب ماؤها وجفّت ولم يتبق بها غير الشوك والزرب الذي غدا فراشاً للشاعر المخدوع، فذهب يذرف الدموع حقيقة لا مجازاً :
قضّيت وقتي عذاب
ودمعة العين سكّاب
وفي قصيدة أخرى يقول:
ما كان ظنّي ضنيني يعتلي أزيد
وزاد ركّب حـرد
في الهرج زايد تشدّد
حاولت كم أقنعه ، ليلي وانا أتودد
ما عاد جـوّب ورد
قفّـل عليَّ وبنّـد
تنمّ (أتودد) عن مقدار خضوع الشاعر بتوسلاته لمحبوبه القاسي. كما يستوقفنا هذا الترادف المتدرج للأفعال (جوّب) و(رد) ، و(قفّل) و(بنّد) ، والجواب غير الرد ، والتقفيل غير التبنيد. ثم انظر كم حمّل الشاعر عبارة " ماعاد جوّب ورد" من أثقال ، ثم ألقى عليها " قفّل عليَّ وبنّـد" فنهضت الشدات بفكرته نهوضاً عجيباً.
وعلى بساطته ، في شعر ابن هادي حرارة متقدة ، وأنين تلمسه في كل حرف في دانته، وهي حرارة نتاج الصدق في التجربة حيث يطيل الشاعر في التعبير عن حالته جراء فراق المحبوب مبتعداً عن إطراء المحبوب ووصف محاسنه.
الدميح في داناته شاعر يشتهي أن يحرّق نفسه في جحيم من القبل كالخوري اللبناني، ولكنه عاثر الحظ. إنّ الشعر شقابة ، يجري الشاعر وراء الخبز الحاف الجاف فلا يجده ؛ ولكم استنجد ابن الرومي الرغيف والتمسه فالتوى ــ واسألوا مارون.
بحث الشاعر (بحاشرة)، صاحب بيت عياض ، عن محلٍّ قربى ونسب فلم يجد أطيب من (آل الرهوي) في (المجحفة) و(آل الهِمس) في (المحلة) فقال مفتخراً: (ما باخـذ الاّ من رجال المجحفة / ولاّ (المحلة) ذي قَبَل ساكن عياض )؛ وترك الشاعر صالح الدميح الكود والدرجاج ونصب (مُهَنّده) في المحلة ، وقال من هناك:
في سنّ عشرين حبيته أنا من جد
وسبت أهـل البلـد
بنيت جنبه مهنّــد
في الطريق إلى بستان الغرام هناك رجلاً ملقى على القارعة يخاله العابر ميّتاً ، وان هو إلاّ في واحدة من سكرات الغرام. مررت بالملقي واستنهضته فقال ضاحكاً:"يحسبوني ميت وانا مكعدل آشي".. أراد الدميح أن يدفن ليله في القُبَل ، غير أنه التفت فلم يجد أمامه سوى رمل (المحلة) فدفن رأسه فيه مجاوراً (الشيخ طافيز) ــ خاطره. إنّ هذا القادم في هيئة مركوب ابن الأشرم لم يأت ليهدم ، بل جاء ليصحّح مسار ناموس الأغنية اليمنية وليتمّمه ■
■ نشرت بجريدة (الثقافية) العدد (125) في 10 يناير 2002 ، و(الأيام) العدد (5191) السنة 26 في 6/7 سبتمبر 2007
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أغنية (يا صفوة الناس) كلمات: عارف كرامة، اللحن: دان لحجي ، غناء : سعيد سيلان
أغنية (يس يا زين يس) كلمات ولحن الأمير أحمد فضل القمندان ، غناء: رمزي محمد حسين