الذكرى السادسة ــــ ( توفي في 14 ابريل 2008م )
... واستراح رماد (أبوي عبدالله) في مقبرة الرحمن بمنصورة الشيخ عثمان، جاراً للحبيبين: والدي وحسن الحداد _ رحمهم الله جميعاً.
لقد مات قطب المعرفة الصافي ورأس النقد في اليمن ، ولكن إشعاعه يزداد مع الأيام ، فلا سراج يضيء وينير بعدما ينطفي إلا الأديب والشاعر. والذي يكبر بعد الموت هو الأديب الحق ، والشاعر المبدع ـ من مال الناقد يُهدى له أيها العاتق الأصيل.
تركنا "شيخ المترجمين" بعد أن رأى حصاده الثمين وجهد السنين زرعاً مثمراً فينا نحن أبناؤه ومريدوه. إيه يا أبتاه ، أنت مثالنا ، والتلميذ ينكبّ على مكارم معلمه ومحامده فينتهبها مكرمة مكرمة ومحمدة محمدة . إنـا نزن الحياة ، كما وزنت ، بميزان العلم والإرادة ، وننذر النفس، كما نذرت ، لأجل الخير والمحبة ، ولنا البشرى في الجنة ، ولنا في الدنيا الذكر الحسن. أنت حيّ فينا ، وإنّا لا نعزّي فيك أحداً غير عدن التي رفعتَ ذكرها عالياً في ساحات مجد الفِكَر .
كأبي عثمان ، شقّ (ابن الشيخ عثمان) لنا طريق الثقافة وعبّدها ، ومهد عقاب المعرفة ، وأرسى قواعد التدريس و التربية. إنه أشبه بابن بحر الذي قال فيه شيخ الأدباء : " كان ، وحده ، جامعة تُلقى المباحثُ عن منبره ، فتتلقاها الأمصار معجبة ومكبرة ... الجاحظ أبو الأدب الشعبي . جدّ ضاحكاً ، وتفلسف ساخراً ، وحلّ أخطر المعضلات وأدقها هازئاً ، فكان كل من جاء بعده عيالاً عليه حقاً ، فهو أستاذ الأصبهاني في أغانيه ، وهادي أبي العلاء إلى سلاح العميان وعتادهم".
كلاهما كان بحر علوم. امتلأ (أبوي عبدالله) معرفة ، فسال متدفقاً - وما قطّر . نشأ على الأدب والجمال وصار في ميدانهما فارساً لا يُبارى ، وكبُرَ حارساً مخلصاً لبيت الفن ، ومعلّماً نموذجياً تخصص في علم النفس وطرق التدريس يوم لم تكن اليمن تعرف أن التدريس علم وفن.
كانت حروفنا شاردة وكلماتنا مبعثرة ، فجاء سمير الكتاب ، حليف القلم ليعيد ترتيب أفكارنا ، وليرعى أسلوبنا ، وليشذب ألفاظنا فيضع كلاً في محله الصحيح ، بروح الناقد الأمين. وكانت طرق درْسنا بدائيةً خائبة ، فجاء كبير النِقاب ، نجيّ الألم ليصحّح اعوجاج منهاجنا ، وليهذب أخلاقنا ، بحلم الأب المستنير. منه تعلمنا أن العلم محبة .
شرب (ابن زيد) من بحور الشعر عذباً من تُبن ـ وادي المعرفة الأول ، وزمَّ من (ماء البمبة) مالحاً من بحر صِيرة ، وعبَّ من نيل مصر ، ونهل من منابع العلوم الإنسانية وآدابها بلغة أهلها حتى ارتوى . تعمّق في دراسة الأصول ، وتبحّر في متون اللغة ، وفَقِهَ أوابدها. لا تعْبَرُ الكلمة من شق قلمه عارية ، فبعد أن يربطها بأخواتها الواقفات في السطر ، يعنى شيخنا بتشكيلها ، فتخرج إلى القـارىء أنيقة زاهية كمقطريّة في (وِيْل) لحجي، تسرّ القلب والعين والخاطر.
كان حجة في اللغتين. ظلّ فارعاً وما تفرعن. وكأبي صاحب عين كفاع "لم يتدكتر لأنه جاء قبل الطوفان" ...
كان أستاذ الأساتذة والأساتيذ حاداً في نقده ، متصلباً لمملكة الأدب السامية من غير تعصّب ولا جمود. أسلوبه رصين بعيد عن الابتسامة ، وخالٍ من الجهامة. يكره خروج الأديب عن قواعد اللغة ، أو إغفال معجمها، ولكنه يمقت التشبث بالقديم على علاته. كالقمندان كان (الفاضل) يحدّ في لسانه لا في قلبه .. يعالج الفكرة بقلب مُبْصرٍ محبّ ، وبخاطر مستنير ، وبروح العدني الذي لا يكره أحداً.
كرابندرانات كان الفاضل معلماً فاضلاً ومربياً عظيماً ، مزج بين مزايا التعليم الحديث ومثُل العربي وأصالته. كان أديباً فريداً ، ومترجماً ثقة دعاه ماكنتوش: "(شيخ المترجمين) (Shaykh of Translators)". كان وجهنا الوضّاح في محافل الفكر والأدب ، وواحداً من مراجع جامعة العرب.
جاوز الثمانين وبقي جديداً كمعاني أبي الطيب. ظلّ أبونا عبدالله حتى أواخر أيامه أخضر الذوق ، طري التفكير ، عذب الحديث ، عندليب المجالس ، لا يتخلى عنه عنفوانه كما وصفه صفيّه الوفي أحمد الجابري:
عذبُ الحديث إذا ما جئتَ مجلسَهُ / يوماً يحدّثُ ، لا ريثٌ ولا عَجِلُ
يأبـى التذلّل ، لا تلقــــاه فـي نفرٍ / إلا ويشمخُ ، في أعطافه زُحَـلُ
أجل، لم يحفل أبو مازن بأهل الحول والطول من الكتاب ، ولا بأبهة السلطان فضحك في حضرته ، على وجه شبيه بأبي حزرة المازح في بلاط ممدوحه :
هذي الأراملُ قد قضّيتَ حاجتها / فمن لحاجة هذا الأرمل الذكر
كنا نهفو إليه فرحين لنعبّ من نبعه الصافي المعلومة والفكرة والخاطرة ، ولنستقطر من فمه الذهبي الإشارة السابحة ، والنكتة القارحة. نصغي إليه (مخزّنين) مشدوهين وهو يتدفق صافياً كنبع عقّان مورد (أبونا عبده عبدالكريم) - طيب الله ثراهما.
مارس النقد يوم كان الأدباء يتفهمّون غاية الناقد وصدق مسعاه . والناقد عند بعض الشعراء أبغض من الشيطان ، ولكن سجايا (الفاضل) الكريمة أبقت مُنتقَديه في خانة الخصومة (الأدبية) لا يتعدونها. ولما جفت منابع الشعر ومنابته ، ولم يعد يجد الناقد مرعى يدرّ عليه قلمه ، تحوّل إلى الدراسة والترجمة ، وأبدع فيهما كعادته.
ترجم عن الإنكليزية والأسبانية : (أما آن الأوان) و(مملكة الغربان)، و(رجال بلا نساء) قصص قصيرة لهمنجواي ، و(السياسي العتيد) مسرحية لإليوت ، و(عطور الجزيرة العربية) لهارولد جيكوب ، و ( اليمن: رحلات المتيّم المهووس في البلد القاموس : YEMEN: Travels in Dictionary Land) لتِم ماكنتوش ، وترجم مع ابنته شفاء بلحارث كتاب (صلاح الدين يلعب الشطرنج). وترك مقالات نقدية ودراسات متفرقة منشورة في الصحف والمجلات ، و ( محطات في حياتي) وهي خواطر عن تجواله في بلدان العالم ، وكيف حطّ في نيوزيلندا واستراليا ، وكيف درّس التاريخ البريطاني للبريطانيين .. وللفقيد ديوان شعر غير منشور بعنوان ( دوّامة الهباء).
كان (أبو تميم) أحد بيارق عدن ، الفردوس الأرضي الذي قال فيه سالم عبدالعزيز – رحمه الله :
There towns are towns of doom and gloom
And mine is Eden in full bloom.
أديبنا الكبير .. يا شيخنا الجليل ، يا أخ سالم عبدالعزيز وجعفر الظفاري وأحمد الجابري وأحمد حسين بلال ومحمد القاضي ويس عبدان ومحمد موسى والمحلتي ... يا صنو الحبيب الجامع ، أيها الجامع محامد الرجال ..
ياحبيب اللحجيين ، يا بن زيـد
يا طير السما ، يا (طاؤور) العَدَن
كقبّرة شلّي (Shelley) الحزين ، بنيتَ عشك على الطين ، وسط البساتين ؛ وغردتَ فسرى السرور عنيفاً ، وعلوتَ صادحاً مبتهجاً ، تحتضن نور الألم _ وترى في التطهر بالألم شفاء .. وتختفي فنسمعك ..
Better than all measures
Of delightful sound,
Better than all treasures
That in books are found,
Thy skill to poet were, thou scorner of the ground!
كما تفتخر الهند بطاغورها ، تفخر عدن بطاؤورها .. وإذا عدت العرب أدباءها فهل نستطيع أن نقدم أحداً على أبي أوس ؟ لقد كان المعلم والمربي والشاعر والناقد والمترجم . كان صوت النقد الأدبي في جزيرة العرب. هو صوتنا في المدى ، ورمزنا في موكب الأبد.
يا أبتِ الحبيب ،
أيها الرجل النبيل ، يـا نابغـة بني عثمـان
سقى الله قبرك بغيثٍ من الوسميِّ قطرٌ ووابلُ .. ■
* نشرت بصحيفة (الأيام) ، العدد (5405) السنة 27 ، في 18 مايو 2008
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أغنية ( المحبة عذاب ) كلمات ولحن: الأمير القمندان، غناء: يسلم حسن صالح
أغنية ( المحبة عذاب ) كلمات ولحن: الأمير أحمد فضل القمندان، غناء: فيصل علوي