المحلتي عريق في الشعر خلفاً عن سلف كالنعمان الأنصاري حامل قميص عثمان إلى معاوية ؛ فجده وأبوه وعمه واخوانه كلهم شعراء، والرضوان له خطرات الشاعر التي لا يتشابه فيها إلا مع الشعر.
حين تمر بميدان الغرام تسمع صوت رضوان محلتي صارخاً فهو "يراخص مرخص" ـ بحسب تعبير أهلنا في لحج. إنه يعطي جلّ همه للائم والعاتب والعذول ، ولا نحصل في قصيدته على شيْ يدلنا على مبلغ أثر الهوى على الشاعر ولا مقدار تأثر المحبوب:
ذولا يبوا كل حاجة خيّـرة تحرق
أما أنا وسط صدري قلب أخضر دق
مادام فيني ( فَنَق ) بعشق وبعشق وبعشق
والجميل في هذا القول هذه المفردات المدقعة في العامية اللحجية " ذولا" أي "هؤلاء"، و"يبوا" أي "يبغوا"يريدوا؛ وتعبير "القلب الأخضر" وهو تعبير لحجي شائع للكناية عن القلب الفتي العاشق المولّع، وتحمل لفظة "فنق" معنى شدة الولع، وقد رأى أستاذنا الظفاري في هذه المفردة ترجمة دقيقة للإنكليزية: Interest . وجميل أيضاً هذا التحدي لعبور بحر الغرام. ومأخذي على هذا المقطع قوله: "كل ممزق" وكانت "شر ممزق" المأثورة أقوى منها وأسلم، وفيها طباق مع "خيّرة"ـــ ولا أدري لماذا أضيق أنا من قافية القاف رغم جمالها هنا.
رضوان محترف غرام ، وهو قرِم دائماً إلى اللحم ، والحبيب زين وحسين وغالي في عيون الشاعر مادام في خانة نعم ، وإذا خرج عنها فلا يكتفي رضوان بطرده من جنته بل يشهِّر به ويخاصمه خصام اللئام:
لـو لي قصد منّك والله لاسحبك / ونـا (بو محمد) بعصـــدها عصيد
لكن في الحقيقة قلـبي ودعـك / واصبح حصن شامخ وأبوابه حديد
حسنك راح منك أيش باقي معك / ما تنفع بعـانه وا عــودي اللكيد
على وزن (سُبَيت) يصبّر المحلتي النفس، وعلى شرع العبدلي يقوم بمظاهرة المحبوب في الفرح وفي الحزن، ويسير على ذات الدرب التي عبدها القومندان لأهل الغرام بقوله: (لأنته تبأ الزين يسلى لك / كُنْ فارق الناس وانذق/ وارضَ معه دوب واحنق)؛ يقول رضوان:
حتى لو حبيبي ما يبـدي هواه / ما بنساه، عمري ما با قـول آه
درب الحب بمشيه حتى منتهاه / بفرح في سروره واحزن لو حزين
معنى الحب عند المحلتي رضوان رضوان :
سكنت قلـبي حبيبي دونما استئذان * واصبح فؤادي مكان * لنار تشعل ، لبركان
شتّان بين المحبـة والجفـا شتان * بين السمو والهـوان * ياللي تقولـــون سيّان
الحب غذا للمشاعر يعمر الوجدان * يعطي المعـاني كيان* ويجعل المرء إنسان
كما في النظم صاحبنا عاشق عابث. هو غير صادق في حبه وغير مخلص، وهذا نظمه يفضحه:
اللي صار منّك ما بعده سماح / سبت اللي يحبك ، ترّكته وراح
راح الحــب كله أدراج الرياح / ياحسرة على الحب يا خلّي وآح
غالب شعر المحلتي في الغرام ، ونحن نقرأه كحكاية حال لا كعاطفة نشاركه فيها. ليس في شعره ألوان ولا صور بل كلام بسيط تفهمه النساء، وهو أشبه بالرسائل المنثورة منه بالشعر. فيه وصف لما يقوم به من دون إجهاد للخيال ولا إعمال للفكر، ولا التفات لكيفية الأداء. وهو عجول تراه أحياناً يحشر قصيدته بالأبيات حشراً ويعبأ أكبر كمية من الأبيات في (خرْج) واحد.. وفي بعض قصائد هذا الوهطي تجد شعراً حلواً كمشبّك قريته :
أنا صابر/ وراضي بالجفـا منّك / إذا ماشي أمل
مع القامر/ تأمّل في القمر حسنك/ أفصّل لك حلل
ولو خاطر /خطر يحمل خبر عنّك / يكفّيني وَسَـل
وهذا الحب با ربيّه * وبا صونه وبا خبّيه
ولا با قول لك ارحم فؤادي فيه ما يكفيه
هذا المحلتي مصاب بحمى الحياة. في نظمه حسيّة ظاهرة، ونفس بشاري باهت. انحشر البصير في زقّ الجسد فتخيّل المرأة مادة استهلاكية فقال مستعطفاً عبدة:
نفّسي يا عبدُ عنا واعلمي / أننا يا عبدُ من لحمٍ ودم
وانضغط صاحبنا حتى صار كقنينة الكولا فاستعان بذات القافية ، وقال متحايلاً:
يعيش الناس في دنيا ونا حالي عدم / أفكر في سنين العمر همْ من بعد هم
وراجي للّقا دايم ، وقول الوصل ذا الحين
وحتى لو بعادك طال أنا قلبي نَسَم / ومهما الأهل لاموني، ومهما الغير ذم
يسمّوني أنا المجنون ، هم اللي هم مجانين
وهو حلو اللسان يتقن مخاطبة الحبيبة ، وهو في ساعات الجد ديمقراطياً من الطراز الأول ؛ يفرش قلبه ويتجنب إغضاب المحبوب بل ويغرية ــ إن لم نقل يغويه ــ لمشاورة القلب لا العقل:
القلب والروح والمهجة ترحب بك * لكن ما بغضبك * براحتك شور قلبك
يذكرني هذا الاستعطاف التحريضي بقول عمر مخاطباً ليلى المُريّة:
ألا يا ليلَ إنّ شفاءَ نفسي / نوالُك إنْ بخلتِ فنوّلينا
توافي رضوان الحليلة خلسة ، وقد يحتال الهاجس ويتمكن من بلوغ رضوان فتنطق شفتاه شعراً فيه صور وموسيقى وإبداع:
أنت في حيـاتي ميـلاد الحياة / قلبي حين شافك كم صفّق وتاه
كم حوري رجم به قلبي ما يباه / غيـرك في حيـاتي ماشي لذْ لي
إنّ تصفيق أهل الغرام حقيقة أو مجازاً هي عادة لحجية متوارثة؛ فتصفيق القلب هنا يذكرنا بصاحبة الأمير العبدلي (أبونا عبدوه) ـ رحمه الله ..
هذا (المحلتي الرابع) ربيب غرام ، وهو معاند كبير، ومشاغب ، وهو مِتباع للزين أيّان رآه أو سمع به :
كم ضيّـع الحب هذا من فتى معتد * شباب ماله عدد * لمّا أملهـم تبـدّد
لكن بعدك ، أنا والله ما بـرتد * رضِــوان ولاّ حَرَد * قفاك وازين مِكْرَد
الخلاصة: رضوان برهميّ ولكن ليس به نواسية ، لا أدبية ولا دينية. إيمانه متين على كثرة حورياته ■
■ نشرت بجريدة (الثقافية) العدد (363) في 23/11/2006
* صورة هودج العروس هدية من الفنان علي باشماخ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أغنية ( ما بأ بديل ) كلمات ولحن،: محمد سعد عبدالله ، غناء: أحمد تكرير
أغنية ( الحب أصله سعادة ) كلمات ولحن،: أحمد صالح عيسى ، غناء: فيصل علوي