(توفي في 16 ابريل 2002م)
عرف (بنو تبني) السعادة وعُرِفوا بها وعُرِّفوا. ذاقوها على الحقيقة والمجاز ،وأقاموها مزاراتٍ في بريّة (عُبَر السعدييْن)، وداروا حول (سعد) و(سعده) دهراً وبعض الدهر.. وهؤلاء (بنو سعد عشيران) بقيّا. والسعُد نباتاً وجدولا، وفاض سعيد والسعديين .. وهذا محمد سعد عبدالله واحد من السعداء.
الأغنية اللحجية شعرٌ خالص نُظِم للخاصة ، وصُبَّ في بوتقة العامة ، وهي لحنٌ عمره الدهر ، وضربٌ سلطانيّ صُكَّ في الحوطة العبدلية فخرج سبائك سبائك..
سارت بنت "صاحب النسرين" في الناس بالهناء والمسرّة. فعصَرَ اللحجيُّ على شرفها وداده وسُهاده، وأسالَ عمرَه منىً وأمانيَ من نغم .. شرَبَ بقلبه وأعلن فرحته على الملأ بصوت بن سعد :
يا فرحتك يا فؤادي / سال سيل الهنا / سقوا زهور المحبة / بانقطف الفن زهرة
غنّت بنت دَرِينه والنوبي والظاهري وعيسى والطميري وسعد عبدالله وعلوي سعد، وتوارث الأبناء صنعةَ آبائِهم فجاء "السعداء": أحمد صالح عيسى ومحمد سعد الصنعاني ومحمد سعد عبدالله وفيصل علوي سعد فوق آبائهم.
في آل سعد سرت المسرّة: كان (سعد عبدالله صالح اللحجي) مطرباً معروفاً في لحج ، فأخذ عنه ولده محمد صنعة الغناء ، ثم حلّت المسرة في بيت أخيه (محسن عبدالله) فأزهرت في ابن خالتي أحمد محسن عبدالله (الشلن) ـــ ومن جبح النوب أشتار العسل .
كبشار، تعالى اللحجي شاعراً ومطرباً عن العوام وظلّ بينهم، وهنا يقع سرّ تفوقه. بلغ الشاعر ذروة الفن إذ خلق من أبسط المواد وأرخصها فناً عجبا. استغنى عن أدوات التشبيه وجاء بصور جديدة طريفة لم يسبقه إليها أحد:
با اذلح لك الغالي لما تقول لي بس / با امسي على بابك والبرد سعبوب
واستولى المطرب محمد سعد على قلوب أهل الغرام في الجزيرة وخارجها، ورددت مطربات العرب ومطربوها أغانيه، وصار بيرقاً ذي رنين متواصل يملأ الأسماع والأصقاع، غير أنه ما برح بقعته أمام مقهى الشيخ عثمان رديفاً لصديقه كاتب العرضحالات الشاعر محمود السلامي "الساكت ولا كلمة"، كان كلاهما بسيطاً وكبيراً في آن ..
كونت لحج ثقافة (أبي مشتاق) الشعرية فجاء شاعراً رقيقاً كماء تُبن ؛ وشكّلت الدلتا ذاكرته الموسيقية فانساب كأعبار وادينا، هادئاً وقوياً معاً ، مستوعباً لموسيقى بلاده ومجدداً ، غنى اللحجي والصنعاني والحضرمي فأجاد. وضع محمد سعد عبدالله ألحاناً ثبّتته في قلوب المستمعين إلى الأبد:
تذـكرته إذا نسنـس بـرود * على جسمه وحرّك شرشفه
وذي اليديـن ذي فيهم زنـود * يطـوّقني بهـم لمّا ارشـفه
هَلِيْ يا سُعـد مَـن شافه ــ مُهَـلاّ ، كـامل أوصـافه
وانــا فدو العيـون السود والخد الأسيـل
ما بأ بديل
أغاني ابن سعد هي قصائد تحمل ألحانها في أحشائها ؛ فأبياتها حسنة التوزيع ، وأشطارها منوّعة القوافي، فيها تكثيف موسيقي، وفيها تكرار للعبارات وهذه من لوازم الأغنية؛ هذا هو سرّ حلاوة لحنها ؛ وأضفى عليها أداؤه جمالاً على جمال.
في (أيش همّني) تجد ابن سعد عبدالله صالح فلاحاً لحجياً خالصاً حتى في خصامه:
لقد استوحى ابن سعد الشيخ عثمان لغة ووجداناً فسكبها شعراً ولحناً عجبا:
مُدّ لي يا زين يدك ، وانا با مُـد لك يا زين يـدي
ضاع عمرك وانت وحدك / وانتهى عمري وانا عايش لوحدي
ليش ما نرجع كما كنا أنا وانته زمان / قبل ما تذبل زهور الحب ويفوت الأوان
شوف انا ما طيق بعدك ، وانته ما تقدر على هجري وبُعدي
مد لي يدك
هذا شعر أندلسي يُذكِّر بابن هاني وابن قُزمان، صُبّ في لحن يفيض بالصدق والشجى والشجن. ابن سعد حبيب المرأة وصديقها. خاطب المرأة بلغتها ففهمته ففاز بحبّها ، وسرت شهرته في الناس حتى صار محلّ حسد الحاسدين وكيد العاذلين:
حسّــك تقـول اننـا مقــدر علــى بُعــدك
أنا اقـدر انساك واخليك للضنى وحدك
واذوّقك نار لا دمعك يطفيها ، ولا أنينك ولا حزنك ولا سُهدك
أنا اقـدر انساك
كان فقيدنا طِبّاً بأمر الحبيبة المُعاندة ، مُلِمّاً بحيل أهل الغرام ، وهاك واحدة من حيله:
قلبي بيـدي، وانا اللي قلـت له يهــواك
وان قلت له انســاه بلحظه قلبي باينساك
هذا كلام كذبٌ كلّه ولكنه حلو ، يستخدمه قائله لاصطياد الفريسة ، وفي أحسن الأحوال فإن صاحبنا يحاول تعزية النفس وتفريغ غضبها لا أكثر ، أما الحقيقة فليس في عالم الهوى من يقدر على توجيه قلبه أو يقوى على السيطرة على عواطفه. تعاطفاً يمكننا القول أن هذا الحب غير صادق:
لو حد أجا لك وقال لك أننا أشتيك / حسك تصدق ، أنا ما عـاد أفكر فيك
لا تحسـب اللي مضى يقدر يخلينا / أذل نفسي واجي استعطفك وارضيك
كان ابن سعد في (أقدر أنساك) متصنّعاً ، وهوذا في (كلمة ولو جبر خاطر) يتودد ويستعطف ويرجو ، والنفَس ذات النفس:
إن كنت ناوي تعذبني / أنا راضي بتعذيبك واحبك
مَنْ منّــك أنتـه يقنعـني / ومن يقــدر يخلينا أحبك
حرام ما دمت صادق/ تهجــر وتبعـد بعيد
كلمة ولو جبر خـاطر/ ولاّ سلام من بعيد
ولاّ رســــالة ياهــاجر/ بيـد ساعي البريد
هكذا نسج ابن سعد من المفردة العامية وتعابير الحديث اليومي قصائد تقطر فناً خالصاً ، وصاغ من ضمير العامة ألحاناً غاية في الإطراب والسلطنة فكان في مضمار الأغنية نسيجاً وحده.
إن جاز لي تصنيف المطربين اجتماعياً فإني أقول أن ابن سعد قد كان لوحده جماعة فنية كاملة ، وإني أرثيه بأرثى بيت قالته العرب ، بقول ابن الطبيب في قيس المنقري:
وما كان (سعدٌ) هلكَـــه هلك واحدٍ / ولكنه بنيـــــانُ قــــومٍ تهَدّمـا
ـــــــــــــــــ
■ نشرت بصحيفة ( عدن ) العدد (13) في 23 نوفمبر2009
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أغنية ( خلاك يا زين خلاك ) كلمات ولحن وغناء: سعد عبدالله صالح اللحجي (الأب)
أغنية ( ما بأ بديل ) كلمات ولحن وغناء: محمد سعد عبدالله صالح اللحجي (الإبن)