في غفلة من كاهن النار، تنفخ (مريم) في ماء الزمن فيستفيق العشق النائم في المذود ويتدفق نوراً ينتظم أهل الشِّعْر والشعَر:
"عوّد كلّ الذين رحلوا حين ألتقي بك، يأتون من أماكنهم الباردة، يتركون زواياهم المعتمة ويجتمعون حولنا.
يعودون إلى الحياة لحظة تلتقي شفاهنا، ويتعانق جسدانا، وتمتزج رغباتنا، وتتلوّن أرواحهم التي كانت باهتة بألف لون ولون، ويشرق مجدهم من جديد.
يتوقّف العابرون عن العبور حين نلتقي، يجمدون في أماكنهم ويرغبون في التشبّث بمكان أو أحد أو شيء.
ينظرون إلينا ونحن متعانقان ويفكّرون في أنّ العبور، إن استمرّ عبورًا، ضياع وشتات وامّحاء في أصقاع الأرض."ـــ (من كتاب أحببتك فصرت الرسولة - ص 95)
يستهويني في نصوص ماري صدق الأنثى، دائماً أشهد رغبة الأنثى تمشي ممسكة بيد العقل ، منتبهة حتى في جنونها .. ليس هناك لفظة يُستحى منها رغم أن ما تسطره يزلزل. رائعة ورائقة وبهيّة وعذبة حتى في تحدّيها .
تناولاتها جامعة بين العلم والأدب والطرافة، وتعليقاتها الشاعرية تضفي على الموضوع أبعاداً. في بعض النصوص تنتصر الـ (fact) على (image)، الـ(real) على (false). تغيب الإستعارة ويختفى "الكذب العذب" وتلفى بنت القصّيفي تبكي العمر بما يوجع القلب ويدميه. حقائق قاسية ورثاء مُر لكنه جميل في صيغته وأسلوب عرضه.. حتى الأفعال ما عادت هي: "ما بقا من العمر أكثر ما مضى"((المدونة: نصوص وجدانية ، 6 يناير 2011):
مؤلم
أن يتقدّم بك العمر دفعة واحدة،
أن تكتشف فجأة أنّك انتقلت من مراهَقة مشاغبة دافئة ثائرة حيويّة إلى شيخوخة مستكينة باردة مسالمة مريضة،
أن تنظر بواقعية جافّة إلى من كنت ترنو إليه بعينين حالمتين بريئتين،
أن تدخل في الصمت الأبله،
أن تكفّ عن الحديث عن نفسك،
أن تمتنع عن مراقبة الآخرين،
أن يفاجئك العمر وأنت تظنّ أنّك ما زلت شابًا أو أنّ عمرك الحقيقيّ لا يبدو على وجهك وجسمك،
أن تكتشف أنّ الصداقات راحت ضحيّة المكان والزمان والمزاج،
أن تقول: "ما بقا من العمر أكتر ما مضى"،
أن تصلّي لأنّك خائف ووحيد،
أن ترى البقع الداكنة على يديك بعدما شغلك الآخر بالنظر إليه دون سواه،"
ومع ذلك تبقى :
" ثمار بطنها أولاد يؤرجحون عمرك بين الأمل والملل
تعطيك إيّاهم الحياة
وهي تذكّرك في كلّ لحظة بأنّهم ليسوا منك ولك،
بل ودائع عندك يؤخذون منك
مهما اعترضت ورفضت
وثمار فكري كتب تحكي للأطفال حكايات
وتروي سير الرجال ليتعلّم منها الأولاد
أوزّعها للناس ولا أترك منها ولو نسخة واحدة عندي."
ــــ من (أحببتك فصرت الرسولة) 15 يناير 2011
* * *
مريم كبيرة حتى في ألمها. بوحها يُدمِع ويُدمي معاً. تحياتي لذات القبعة السوداء ويمناها المصابة، وقبلة محبة خالصة على قلبها الناضح بالإيمان حتى حِلّ الشكوى:
كانت الطفلة يومذاك برفقة أمّها، في طريقهما إلى مستشفى الجامعة الأميركيّة، في تلك السنة التي انتشر فيها، وقبلها، وبعدها، شلل الأطفال، فباءت رجلها اليمنى بالفشل في مواجهة طغيان الوباء، وفي غياب اللقاح، بينما حقّق سائر جسمها نجاحًا في المقاومة. ومنذ ذلك الحين وهي تشعر بأنّها قادرة على الانتصار!
تنظر الطفلة البيضاء، وهي تجاهد لتبقى واقفة، إلى الكاميرا، فترى امرأة ترتدي ملابس سوداء أنيقة. وبطريقة ما، تعرف أنّ هذه ستكون صورتها بعد خمسين عامًا! وبطريقة ما، تعرف أنّ المشوار سيكون طويلًا ومرهقًا ومؤلمًا! ……
صاحبة القبّعة السوداء تنظر إلى الكاميرا وترى طفلة خائفة في ثياب بيضاء، تقف بصعوبة على أولى درجات سلّم الحياة. تمدّ لها يدًا تبدّد خوفها من السقوط، غير أنّ الصغيرة ترفض، وتصرّ على أن تكون وحدها في الصورة، وتنجح، وتبقى واقفة، وتمشي بلا عكّاز، وتقطع مسافة خمسين سنة، وحين تجلس لتستريح، تفكّر في موضوع كتابها الجديد!
في مقالة ( لست قديسة) كتبت ماري في مدونتها (باب نصوص وجدانية، 28 سبتمبر 2011):
جهنّم!
أخيرًا وجدت مكاني المفضّل الذي لا يوجد فيه أحد سواي!
هناك، تحت، لا فرق أين، سأكون أخيرًا وحدي، لن يزعجني أحد، لن يكلّمني أحد، لن أضطرّ للإجابة على أحد، ولن أصلّي كلّ أحد!
كلّ الناس صاعدون إلى السماء ما عداي:
القدّيسون والطوباويّون والمكرّمون والأولياء ورجال الدين من مختلف الطوائف والمذاهب والرتب والمقامات، والراهبات والمحجّبات والشيخات، والمتجدّدون بالروح وأنقياء القلوب والودعاء والأصوليّون والمبشّرون والملتحون وفاعلو الخير وناشرو السلام ومقدّمو البرامج الدينيّة والمرتّلون والمنشدون، والفرسان والزنابق والطلائع وأعضاء الأخويّات والجمعيّات الخيريّة...
وحدي ارتكبت كلّ ذلك. وكلّ الآخرين، كلّكم، أبرياء لا دم على أيديكم ولا افتراء على ألسنتكم! فاصعدوا كلّكم إلى السماء مكافأة لكم، وسأنزل وحدي إلى الجحيم وأنا أردّد: الحمد لله لأنّني لست قدّيسة! الحمد لله لأنّني لست قدّيسة!
*****
في أدب بنت ريحان أفكار ومعاني حسان. وما بين زُبدة القول عند بنت (زبدين) وزَبَدهُ عند ابن (رشعين) تظلّ روحي حائمة مُستهامة منطربة للبحر والزهر وللمحبة وللسلام. قال شاعر لحج عبدالله هادي سبيت:
ليلة البشرى ليلة الأنوارْ * كلنا قلبهْ في الأماني طارْ
كلنا في عود المُنى أوتار * عمرنا مَغنى
* * *
وفي موسم القطاف تسيل الريحانية خيراً ومحبة بعدد حبات الزيتون في أرض أجدادها (المدونة: يوميات الأرض، 14 نوفمبر 2010):
الموسم موسم قطاف الزيتون والمعصرة تنتظر. ولو كانت جدّتي إم سليم على قيد الحياة لما سمحت لنا بقطفه وعصره قبل كانون الثاني وشباط حين تمتلئ الحبيبات حتّى الانتفاخ بالزيت. ولكنّ الأيّام تغيّرت يا ستّي، والطقس الدافئ لا يعد بالشتاء، والحبيبات الحبيبة ستضجر من الانتظار قبل أن يغسلها المطر ويتحوّل فيها زيتًا، ونحن عندنا أعمالنا ولسنا منذورين مثلك للأرض التي أعطيتها بلا منّة، فأعطتك بسخاء. ..
الناس اليوم يحبّون الهواء لا التراب: يطيرون في السماء، يطيرون في سيّاراتهم على الطرقات، يطيرون من الفرح عندما تأتي الكهرباء، يطيرون من وظائفهم. كلّ ذلك بأجنحة من شمع تذوب حين تقترب من الشمس فيسقطون، كإيكار، ويعانقون التراب رغمًا عنهم."
إن قلبك يضج بالمحبة، وإني أسمع حروفك تصفق للفرح في لبنان حتى في فصل (الشتي)، الفصل الذي نبّه مارون عبود كبارَ السن أمثالي منه.. أنت ومعصرتك وزيتونك وقلمك الأنيق مثلك .. وكل أهل الأرز من "رياحين" الجنة ، عافاكم وعافى لبنان.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ليست هذه مقالة بل بعض من تعليقاتي على نصوص للكاتبة نشرتها بمدونتها وبصفحتها على الفيسبوك.
** ماري طانيوس القصيفي. نشرت كتاباتها الأولى تحت اسم مستعار هو ( مي م الريحاني). كاتبة وشاعرة وروائية معروفة من بلدة الريحانية ، بعبدا ــ لبنان. صدر لها عن دار مختارات*: لأنّك أحيانًا لا تكون 2004، رسائل العبور 2005، الموارنة مرّوا من هنا 2008، نساء بلا أسماء2008/ وعن دار سائر المشرق: كلّ الحقّ ع فرنسا (رواية)2011 - أحببتك فصرت الرسولة (شعر)2012 - ترجمة رواية "قاديشا" لاسكندر نجّار عن الفرنسيّة (2012) - ترجمة رواية "جمهوريّة الفلّاحين" لرمزي سلامة عن الفرنسيّة (2012).
*** مدونتها ( صالون ماري القصيفي )
**** على الفايسبوك (Marie Kossaifi ــ ماري القصيفي)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أغنية ( مطر نيسان ) كلمات ولحن: الأمير أحمد فضل القمندان، غناء: فيصل علوي
هذه الأغنية من تسجيلات تلفزيون عدن عام 1966م